شوقي بغدادي ونذير العظمة.. من السياسة والأحزاب إلى تنوّع الإبداع والموقف من الحداثة

تشرين-سامر الشغري:

كانت الأحزاب السياسية في سورية إبان الخمسينيات أشبه بقبائل العرب زمن بداوتهم، التي كانت تعلي من شأن شعرائها وتضعهم في منزلة المنافحين عنها، فتبنت هذه الأحزاب أدباء من المنتسبين إليها وأخذت بيدهم، وأفسحت لهم المجال في صحفها الخاصة ومنابرها واجتماعاتها الدورية، وكان من بين هؤلاء الأديبان الراحلان نذير العظمة وشوقي بغدادي.
ولكن علاقة هذين الأديبين اللذين رحلا تباعاً عن عالمنا بفارق ثلاثة أيام بالسياسة والأيديولوجيا لم تكن بالمستوى نفسه ، فبغدادي كان أكثر تحرراً في انتمائه الحزبي وعقيدته، وكان يرفض مثلا أن يتم إلحاقه بالمدرسة الواقعية الاشتراكية في الأدب باعتبارها بوتقة كل أدباء اليسار، فوصف هذه بالتسمية المطاطة، لأنه كان من المؤمنين بالتداخل بين التيارات الأدببة.
أما العظمة فظل من المنادين بالفكر السياسي لحزبه وبالعقائد التي تشربها حتى أعوامه الأخيرة، وسعى لأن يجد تلاقحاً بين الأدب والأيديولوجيا، وأن يكرس الأول لخدمة الثاني.
ومن اللافت أن حياة هذين المبدعين تضم مفارقات عدة، لا تتصل فقط بأنهما ابنا الحقبة ذاتها وولدا في سنوات متقاربة، فعند بغدادي والعظمة ثلاث نقاط أساسية التقيا أو اختلفا فيها، وهي الجمع بين العمل الإبداعي والدراسة الأكاديمية، ثم الانفتاح على كل الأجناس الأدبية والكتابة فيها، وأخيراً موقفهما شديد التباين من قصيدة النثر.
في الماضي كانت الركيزة في الإبداع عند معظم المشتغلين في الأدب من جيل بغدادي والعظمة ومن قبلهما الموهبة فقط ليس إلا، والأسماء الكبيرة في عالم الشعر والأدب لم تدرسه قط وجاءت من اختصاصات علمية بعيدة عن هذا المضمار.
غير أن بغدادي والعظمة كانا أشبه بالاستثناء في زمانهما، فالأول الذي ولد في بانياس سنة 1930 أخذ به حبه للعلم مداه فنال إجازتين جامعيتين في الأدب العربي والتربية، ثم انخرط في التدريس داخل سورية وخارجها، أما العظمة الذي ولد سنة 1930 فدرس الأدب الإنجليزي في جامعتي دمشق وبورتلاند الأمريكية حتى نال شهادة الدكتوراه.
الميل إلى الكتابة في مختلف صنوف الأدب كان السمة الثانية التي جمعت بين إبداع هذين الراحلين، لقد كان بغدادي يجد أن كل تجربة حياتية عاشها تختار جنسها الأدبي الأقرب إلى طبيعتها، وبهذا المعنى وجد نفسه في كل جنس أدبي يمارسه، لذلك شملت مؤلفاته الغزيرة الشعر والقصة القصيرة والمسرح والرواية وأدب الأطفال والنقد الأدبي والفكر السياسي.
ويكاد الأمر ينطبق على سيرة العظمة الإبداعية الذي ألف في الشعر والمسرح والرواية والدراسات الأدبية، والأخيرة أخذت حصة وافرة في أعماله، وعندما سئل عن هذا التعدد ربطه هذا الأيديولوجي المخضرم بدفاعه عن الهوية الحضارية، وسعيه لأن يسخر الأجناس الأدبية التي كتب فيها خدمةً لهذه التجربة، ورأى أن هذا التنوع جزء من الوحدة السيكولوجية عنده.
أما الموقف من قصيدة النثر فكان أكثر ما اختلف فيه الراحلان، فبينما كان بغدادي صاحب التجربة الواسعة في الشعر العمودي وقصيدة التفعيلة من أشد الرافضين لإلحاق هذه القصيدة بدوحة الشعر وبأنها جنس أدبي مختلف وشكل مستورد، بل إنه وجد أن التخلي عن الوزن والقافية جاء بمعدومي الموهبة، نرى أن العظمة نظر إلى هذه القصيدة بوصفها نشاطاً إبداعياً آخر يتم باسم القصيدة، وإن كانت بعض نصوصها المكتوبة لا يستحق أن يكتب شعرا فالأمر نفسه ينطبق على قصيدتي الشطرين والتفعيلة، معتبراً أن القصيدة لا تستحق اسمها أيا يكن شكلها إلا إذا توافرت على شرط الإبداع.
وعلينا أن نتوقف في النهاية عند أمرأخير، وهو أنه رغم نزعة العظمة نحو الحداثة وإيمانه المبكر بها عندما أسس مع يوسف الخال وأدونيس وخليل حاوي مجلة شعر سنة 1957، مقابل توجّس بغدادي منها لأنها حولت الشعر إلى أرض مشاع، فإن شعراء الحداثة اليوم غضوا النظرعن هذا الرأي، وأخذوا ينظرون لبغدادي باعتباره أستاذهم وملهمهم، وأصبح الأديب الرافض للحداثة غير المنضبطة رمزاً للحداثيين.