ليندا ابراهيم تنسجُ سجادةً ملوّنةً من فصول الحبِّ والوحشة
تشرين- رفاه حبيب:
«فصول من الحب والوحشة و تقاسيم على وتر الجمال».. هكذا عنونت الشاعرة ليندا إبراهيم مجموعتها الشعرية الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب- وزارة الثقافة.
و من خلال نصوصها استطاعت ليندا إبراهيم بأدواتها الشعرية البسيطة أن تحجز لنفسها مكاناً مرموقاً في الساحة الشعرية السورية والعربية.
تولّت منصب مديرة الثقافة في طرطوس، وخاضت مع حروفها في العديد من المحافل الشعرية في سورية وخارجها، وتألقت وفازت بعدة جوائز سورية وعربية ، وكانت لها مشاركة لافتة في برنامج «أمير الشعراء» وهي قادرة على خلق الصور المدهشة التي تشعرك بالروعة وأنت تقرأ قصائدها.
وميزة نصوصها أنها تخلو من الحشو والتكرار، وتعكس جمالية متقنة، وهي تبني عمارتها الشعرية.
وهنا نشير إلى أن للشاعرة إبراهيم ست مجموعات شعرية.. اخترت منها هذه المجموعة «فصول الحب والوحشة» كي نغوص معاً في بعض تفاصيلها الجميلة.
فقد بدأت الشاعرة مجموعتها بعنوان« ومضات» وهي ليست مجرد ومضات، بل هي نصوص باذخة الروعة وجداول من ألق، تنساب بين الصفحات كماء سلسبيل.
ضمت بين دفتيها خمسة وأربعين نصاً مفعماً بصخب الحب وعنفوان المرأة.. إذ تنادي الحب الذي تجد فيه مؤونة حياة كاملة، بل هو المعادل للحياة التي لا معنى لها من دون حب، تماماً كبيت خاوٍ من مؤونته :
«يا حبّ….
يا خبز الله
يا خمر الملائكة… يا وجعي
يا حبّ
اكفني مؤونة غربة روحي
قطرة من غيثائك
قمحة من خزائنك
قلباً يلفّنًي بكفن
من حنين..»
وتتنوع شواغل وهموم إبراهيم، فعن الانتظار ولوعة الأشواق التي تجتاح روحها في الليالي الحزينة، وبكلماتٍ مشبعةٍ باللهفة، وصور بيانية خلابة تقصّ علينا ما تفعله بها الأشواق، هذا الانتظار الذي تكسرُ حدته بمؤونة خزنتها منذ حين، وهي وجه الحبيب الذي يؤنسها في ليالٍ حالكة الحزن والسواد :
«في ليالي الصنوبر الحزين؛
أعلق وجهك تعويذة
على باب قلبي
تقيني حمّى حنيني
إلى شذاك قربي
شهيٌّ…
شجيّ…
ثملٌ …
وجهه المثخن
بحزن لايندمل.»
وليندا إبراهيم ابنة طرطوس، عاشقة للبحر ، لا تملّ منه، تبثه نجواها.. وتجد فيه ، في موجه وأعماقه واستقباله العائدين وتقبيل الضفاف معادلاً لها في انتظارها الحبيب الذي أمسى اليوم قصيّاً وبعيداً، فتطلبُ منه دروساً من تلك التي دوّنها على مدى الموج المتلاحق.. فتراها تارة تناجيه متضرعة تسأل أمواجه العاتية بكل حب قائلة :
«يا موج..
ياتنهّد البحر
يا حديث الأعماق
يا رداء حبيبي
يا بحر….
علّمني الاشتياق
من اشتياقك للقاء الرمل..
علّمني العناق
من معانقتك العائدين..
علّمني اللهفة
من أشرعتك الآيبة
من مدن الغياب..
علّمني الهدوء كأعماقك
هدوء المحب
على صدر من يحب
علّمني الغَمرَ يا بحر »
وتراها تارة أخرى تدسّ حزنها في جيوب أيلول الذي تعاتبه بحب هو وليل طرطوس بلغة واضحة ومعانٍ قريبة إلى كل متلق لا لبس في مجازها.. فتفرد عباءة حروفها لتظلل أرواحنا المتعبة، وتجعلنا نبحر معها في خيالٍ خصبٍ جامح.. ففي عتابها لليل أيلولي تقول :
«كم أنت طويلٌ كئيبٌ
يا ليل طرطوس
كم أنت حزين يا أيلول
كأنني لا أعرفك
كأنك لست
كوجه من أحبّ
تأتي بلا مطر…
بلا روح…
بلا حبّ أيضاً..
تأتي غريباً… شريداً… متعباً
بين الشهور..»
ذلك حين تلجُ عتبة «فصول الحبّ والوحشة» فتجد نفسها تطفو على وجه المساء كورقة خريفية في مهبّ الأمل.. تقول الشاعرة في نصّ «المساء» :
«هذا المساء
الغارق بالحنين…
يطلُّ وجهك
مع المطر الخريفيّ
أمام زجاج العربة
الموشّى برذاذ المطر
ذلك الوجه
أثيريّ الملامح
صاعق الحزن
يباغتني
يداهمني
قبيلة من عشّاق..
إذاً سمة أغلب نصوص هذه المجموعة الموشاة بالحنين، هي الشغف بصورة وجه الحبيب البعيد، والحديث عن ذلك البين الذي يجعل من الربيع خريفاً دهرياً وبطيء الايقاع، وكأنه استطاب الإقامة في منازل الروح ويأبى الرحيل.. ففي نص «خريف العمر المر»، يشعر المتلقي وكأنه يدخل مقاماً مقدساً، وهو يجد نفسه كمن يخلع حزنه، ويدخل بكل خشوع متلفعاً بثوب الطهارة، متبخّراً بالقداسة بلغةٍ شاعرية محوكة بصياغة لافتة بعيدة عن التكلف والتصنّع، إذ تقول:
«أشتاقُ لعينيه
فيأخذني الحنين
إلى محرابٍ من يباب
وأبتهل في ملكوتك:
إله الخريف..
إنّ عزيفَ الجنّ ينخر روحي
وعويل الحزن الأخرس
يمتصّني قطرةً.. قطرةً
وخواءٌ دفينٌ
يلفّني بقوة في مداراته
التي لا تنتهي
أيها الجليل المهيمن
أشهد أن لاملك إلا أنت
ولا حبيب إلا أنت
فاجعلني مقبولة
في حضرتك الوضّاءة.»
وتختم ليندا مجموعتها الشعرية بذكرى يوم كانوني حزين سمّته «عام الرحيل»، بمعنى أن ثمة غلالة حزينة كانت تلبس النصوص تماماً كوشاح يلفّ عنق القصيدة ويُزينها بكل ذلك الوقار النبيل.. من هنا تكثرُ مفردات: الشوق، الحنين، الشتاء، الليل، الألم، الغياب، والخريف.. وكلها تنسجها الشاعرة كسجادة فارسية زاهية بألوان الحزن الشفيف:
رياحٌ مجنونة
تُعربد عبر معابر الغياب
حيث :
ألف ذكرى… وألف فرح
وألف ألم…
يومها
أَلِفَت الروح جرحَها
تحالفت مع حزن طالما أقام
هناك :
آنستُ في مشكاة
الروح هدىً
يوصلها
عبر دروب الرهق والحنين
إلى ممالك الله…
حيث المعنى الحقيقي
للموت… الحياة
حيث الروحُ
لا تخطئ بارئها.”