الاقتصادات المنكمشة.. تستيقظ على تكاليف اقتصادية واجتماعية فادحة لغياب برامج الرعاية والدعم.. تحسين المستوى المعيشي يرتبط بزيادة الإنتاج وتحقيق النمو الاقتصادي
تشرين:
يبدو الاهتمام بالصحة العامة وبيئة العمل وتحسين المستوى المعيشي العامل الأول المحرك لعجلة النمو والإنتاج في الاقتصاد, واليوم تستيقظ كثيراً من الاقتصادات على التكاليف الاقتصادية والاجتماعية الفادحة لاعتلال الأوضاع المعيشية والصحية، لاسيما بعد ظهور جائحة كورونا، وانتشار الأوبئة التي أدت ليس فقط لتراجع الصحة وإنما لانكماش وتراجع الاقتصاد.
وتؤكد الدراسات أن التفاعل ما بين بيئة العمل وصحة العامل أمران مترابطان ومتفاعلان. وتفيد الكثير من الإحصاءات والدراسات خلال القرن العشرين على هذه النظرية.
يقول الدكتور منير أبو شعر: رفاهية الموظف هي عنصر حاسم في بيئة عمل وتنظيم صحيين. تسهل الشركات التي تعزز الرفاهية على الموظفين إدارة مستويات التوتر مع الحفاظ أيضًا على بيئة إيجابية ومنتجة. يمكن أن تشير الرفاهية إلى الصحة العقلية والجسدية، بالإضافة إلى أشياء أكثر تعقيدًا مثل مستويات الرضا والمشاركة.
تقلص الدخل الحقيقي بشكل حاد بزيد الضغوط سوءاً على الاقتصاد
ويرى الدكتور أبو شعر أنه من واجب أصحاب العمل تزويد عمالهم بالدعم والرعاية اللازمين لصحتهم الجسدية والعقلية . على الرغم من ذلك، لا تزال العديد من المؤسسات تفتقر إلى استراتيجية مخصصة للرفاهية. يمكن أن تساعد استراتيجية الرفاهية الموظفين على الشعور بالتقدير والدعم في العمل. يمكنه أيضًا تحسين مشاركة الموظفين وتحفيز الفرق على مستوى الشركة للوصول إلى أهدافهم.
يوضح الدكتور أبو شعر: عندما يشعر الموظفون بحالة جيدة، فإنهم يميلون إلى الأداء بشكل أفضل. هذا يزيد الإنتاجية ويساعد الموظفين على تطوير عادات أفضل. تظهر الدراسات أن العاملين يكونون أكثر إنتاجية بنسبة 13٪ عندما يكونون سعداء . عادات مثل سياسات التوازن بين العمل والحياة الصحية والمتسقة من الإدارة هي مثال جيد على كيف يمكن لأصحاب العمل المساعدة في زيادة السعادة. تضمن هذه العادات أيضًا استمرارية العمل ، حتى خلال المواسم المزدحمة.
كما تؤدي صحة الموظف الجيدة ورفاهيته أيضًا إلى ارتفاع معنويات الموظفين. عندما يتم تلبية احتياجات الموظفين، فإنهم يشعرون بالتقدير والكفاءة نتيجة لذلك.
كانت حياتهم قصيرة ووحشية
مؤخراً تم نشر تقارير إعلامية تلفت أنه خلال القرن الـ20 كانت حياة الناس موصوفة بشكل جيد من قبل كتابات فيلسوف القرن الـ17 الإنكليزي، توماس هوبز: كانت قصيرة ووحشية. كان متوسط العمر أكثر من 40 عاماً بقليل وظل على هذا النحو قروناً.
شهد القرن الـ20 نقطة انعطاف في طول الأعمار وأشياء أخرى كثيرة. التطورات الطبية، والاقتصادية، والاجتماعية أتاحت للناس في كثير من البلدان التحرر من صراعاتهم غير الحضارية. في بعض الدول، تضاعف متوسط طول العمر في غضون قرن من الزمان، من 40 إلى أكثر من 80 عاماً. كانت هذه قفزة غير مسبوقة إلى الأمام في طول حياة الإنسان.
ويضيف الدكتور أبو شعر هذه الإطالة في العمر لم تغير حياة الناس فحسب، بل الاقتصادات أيضاً. أدى الانخفاض في معدل وفيات الأطفال والارتفاع في طول العمر إلى تضاعف عدد السكان العاملين، كما أضاف هذا الارتفاع في عرض العمالة بشكل مباشر وكبير إلى إمكانات النمو المحرك الأول للنمو الاقتصادي،كذلك أدى تحسن الصحة إلى تعزيز إنتاجية العاملين في مكان العمل، مثلاً، بسبب انخفاض الغياب: المحرك الثاني للنمو.
يبين الدكتور أبو شعر : من دون مبالغة وحسب مراكز دراسات عالمية فان ارتفاع مستويات المعيشة خمسة أضعاف خلال القرن الـ20 ـ أمر غير مسبوق في تاريخ البشرية ـ يمكن أن يعزا إلى تحسن النتائج الصحية. من خلال إطلاق المحرك التوءم للنمو الاقتصادي – نشاط سوق العمل والإنتاجية – كانت الصحة الجيدة بطلاً لقصة النمو في القرن الـ20، وإن كان ذلك غير معروف إلى حدّ كبير.
كان هذا غير معروف قبل أن تتراجع ،لأن التحسينات في متوسط العمر المتوقع في هذا القرن تلاشت في عدد من البلدان، ، في بعض الأماكن الأكثر فقراً، وبين بعض الأسر الفقيرة، ينخفض متوسط العمر المتوقع الآن، نحو ثلث حياة الفقراء الآن تستمر في حالة صحية سيئة.
كوفيد – 19 زاد الأمور سوءاً
في بعض الدول، ارتفعت نسبة السكان في سن العمل الذين يبلغون عن مرض طويل الأمد إلى واحد من كل ستة، أي نحو سبعة ملايين شخص. كان العدد أكثر من خمسة ملايين شخص في 2010. في حين أن كوفيد – 19 زاد الأمور سوءاً، إلّا أن هذه الارتفاعات تسبق الجائحة. فهي تعكس زيادة مطردة في أمراض القلب والأوعية الدموية ومشكلات الصحة العقلية، من بين أمور أخرى.
كان الارتفاع في اعتلال الصحة أسرع بين الأشخاص، الذين تراوحت أعمارهم بين 16 و24 عاماً، ولاسيما مشكلات الصحة العقلية. يبلغ واحداً من كل ثمانية أشخاص الآن عن مرض طويل الأمد. يبدو أن المستويات المرتفعة والمتنامية من انعدام الأمن الاقتصادي والمالي كانت المحرك الرئيس، بعد أكثر من عقد من الأجور الحقيقية المتوقفة، ومع توقع تقلص الدخل الحقيقي بشكل حاد في العام المقبل، فإن هذه الضغوط ستزداد سوءاً.
إضافة إلى تأثيرها في الأفراد، هذه الاتجاهات الصحية السلبية لها الآن عواقب على الاقتصاد الكلي. إنها تسهم في ركود الإنتاجية، بالنظر إلى وجود أدلة قوية على أن اعتلال الصحة البدنية والعقلية على وجه الخصوص يؤدي إلى ثبات مستويات الإنتاجية في مكان العمل.
واجب أصحاب العمل تزويد عمالهم بالدعم والرعاية اللازمين لصحتهم الجسدية والعقلية
تسهم المشكلات الصحية الآن في تقلص القوى العاملة، فهي الآن أقل، مقارنة بمستويات ما قبل كوفيد، ويشير بعض الاستطلاعات إلى أن ما يصل إلى ثلثي العاملين أصبحوا غير نشطين اقتصادياً بسبب اعتلال الصحة.
مستويات عالية من الاكتئاب
بعد أن كانت الصحة رياحاً خلفية قوية على مدى قرنين، أصبحت الآن رياحاً معاكسة قوية للنمو الاقتصادي، ربما للمرة الأولى منذ الثورة الصناعية. ويبدو أن المحرك التوءم للنمو متوقف الآن، مع كون الصحة مساهماً رئيساً.
ليست الاقتصادات وحدها، التي تشعر بهذه الضغوط؛ أنظمة الرعاية الصحية تشعر بالضغط نفسه. في بعض الدول، شهدت خدمة الصحة الوطنية ضعف قوائم الانتظار في المستشفيات تقريباً منذ 2010. وأصبح العاملون في الخدمة الصحية الآن مرضى مثل أولئك الذين يعالجونهم ـ أبلغ واحد من كل خمسة منهم عن مستويات عالية من الاكتئاب.
تحتاج حلقة التغذية الراجعة السلبية هذه بين الصحة الاقتصادية والطبية، على خلفية نظام الرعاية الصحية الهش بشكل متزايد، إلى أن يتم كسرها بطريقة أو بأخرى وتعزيز مرونة النظام.
وبما أنه لا توجد حلول سريعة ولا منفردة، هناك ضرورة أكثر وضوحاً لتوجيه الدعم نحو تدابير الصحة الوقائية – بما في ذلك الاستثمار بشكل أكبر في التثقيف الصحي في المدارس، ونحو مشكلات الصحة العقلية لدى الشباب والتدابير التي تشجع على تحسين النظام الغذائي – لأنها جميعاً من الشروط اللازمة لاستعادة النمو.