الاقتصاد الدائري وإعادة إعمار قطاع البناء والسكن في سورية
أ.د. حيان أحمد سلمان
شاهدت خلال سفري من دمشق الفيحاء إلى حلب الشهباء، مرورا بحمص العدية، الأبنية المدمرة من تجارية وصناعية وسكنية، بما يعكس همجية العصابات الإرهابية وحقدها على سورية والسوريين من بشر وشجر وحجر، وكاقتصادي وبغض النظر عن الخسائر الأخرى، فكرت كم سيكلفنا بمليارات الليرات لنعيدها على الأقل كما كانت إن لم يكن أفضل؟!، وما الطريقة المثلى التي تضمن تحقيق المعادلة المثلى في الإنتاج، أي ” أقل تكلفة وأحسن نوعية وأسرع وقت”.
وهنا أقترح الاستفادة من تطور (الاقتصاد الدائري) ، ولا سيما تطوير تقنية التدوير وإعادة الاستخدام للموارد المستهلكة ومخلفات الإنتاج، منطلقا من أن “لا شيء يدعى نفايات أو مخلفات”، بل يجب إعادة استخدامها واستثمارها، وإعادة تصنيعها، وتأمين سلاسل انسيابها وتوريدها بأعلى كفاءة ممكنة في القطاع نفسه أو في قطاعات أخرى متكاملة أو متممة له ، أي أن يعاد استخدام مخرجات الإنتاج كمدخلات.
وبشكل عملي أقترح أن نبدأ كخطوة أولى من قطاع (البناء)، المولد الأكبر للنفايات من بين كل القطاعات الاقتصادية، وإذا نجحت التجربة، وهي ستنجح إذا توفرت لها عقلية اقتصادية إدارية فعالة، فعلينا أن ننتقل بعدها إلى قطاعي الصناعة والزراعة. وبرأينا أن إعادة استخدام مخلفات الأبنية المدمرة سواء (الحديد أو الإسمنت أو الحجر الإسمنتي أو الخشب أو …إلخ) وتدويرها، تجعلنا نحصل بشكل مباشر وعملي على إيجابيات اقتصادية متعددة ومتنوعة، ومنها مثلا تأمين مدخلات البناء من مخلفاته وعندها تقل التكلفة والهدر، خاصة أن أغلب مواد البناء مستوردة، وبالتالي نوفر من القطع الأجنبي، ونساهم في تأمين جبهات عمل جديدة تساهم في حل مشكلة البطالة، خاصة في أوساط الشباب وحسب دراسة قمنا بها تبين أن تفعيل قطاع السكن والبناء يفعل معه كل القطاعات وبشكل مباشر /82/ مهنة وورشة؛ ومنها مثلا (عمال البناء والنجارة والزجاج والخشب والحديد والإسمنت والطرق والألمنيوم والأثاث، وفرص عمل لمحاسبين وإداريين وعمال نظافة وحدائق وحراس وبنوك ومدارس وحضانات)….إلخ، ويتوسع البناء، ما يساهم في التوازن بين العرض والطلب، وبالتالي تنخفض أسعار السكن، ويتأمن السكن اللائق للمجتمع السوري الفتي الشاب، الذي تتجاوز نسبة من هم دون سن /40/ سنة /80% / ، بما يؤمن طلبا متزايدا على سلعة السكن النبيلة.
كما أن هذا الاقتصاد الدائري سيؤدي أيضا إلى تفعيل سلسلة القيمة المضافة وسلاسل التوريد، والتخلص من هذه النفايات وتأثيراتها السلبية ، ويساعدنا في ذلك أن متطلبات نجاحه سهلة وإجراءاته غير معقدة ، ومنها مثلا ترسيخ ثقافة الاقتصاد الدائري في مجتمعنا واستصدار الإجراءات التشريعية الداعمة له مثل إعفاء متطلبات العمل ونتائجه واستثماراته من كل الضرائب والرسوم، وتخصيصه بدعم مالي وعيني كما فعلت الصين والدانمارك ، وتأسيس ورشات عمل متخصصة مع خريطة تسويقية كما فعلت الإمارات العربية المتحدة وتونس سنة/2021 / ، حيث يمكننا الاستفادة من تجربتهما وتجارب (روسيا وإيران والصين)، وهذا ما فعلته أغلب دول العالم، إذ تؤكد الدراسات الاقتصادية الدولية أنه يوجد حاليا /700/ مصنع في العالم تعمل في ميدان الاقتصاد الدائري بعد الحرب العالمية الثانية، وأن ذلك ساهم في إعادة البناء الأوروبية، وأمن أكثر من /10/ ملايين وظيفة بقيمة مضافة أكثر من /150/ مليار دولار، ووفر الطاقة لأكثر من /600/ مليون شخص، ومن المتوقع أن تصل عوائده حتى سنة /2030/ إلى حدود /14/ تريليون يورو، ولذلك يزداد الاهتمام الحكومي والاستثمارات الخاصة به في أغلب دول العالم ، و بدأت الجامعات والمراكز البحثية بتدريسه لأنه يساهم في حماية البيئة وحفظ المواد.
وكمثال على ذلك فإن (سويسرا)، التي تعاني من ندرة الموارد لديها وهي من أكثر دول العالم المولدة للمخلفات الإنتاجية والخدمية ، خصصت وتخصص سنويا ندوات لتطوير الاقتصاد الدائري، وآخر ندوة كانت بتاريخ 7/9/2022، كما نظمت تونس الشقيقة ندوة عن الاقتصاد الدائري أيضا بتاريخ 26/7/2022 واستمرت يومين .
ومع قناعتنا بإمكانية نجاح هذا الاقتصاد في سورية، ونحن نعيد الإعمار والبناء، فإنه يمكن بعدها أن ننتقل لتطبيقه على القطاعات الأخرى مثل (الزراعة والصناعة والنقل ..إلخ)، كما تفعل الصين باعتمادها سياسة اقتصادية تدعى (سياسة النسخ)؛ أي إن أي فكرة أو مشروع ينجح في قطاع ما، تقوم بتطبيقه في قطاعات أخرى، وهذا ساهم في تطورها الكبير، فهل نبدأ ومتى؟ وكما يقولون مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة ، وكل مقومات النجاح متوفرة لدينا من عوامل مادية وبشرية، والاقتصاد والمجتمع السوري مناسبان لتطبيق فعاليات الاقتصاد الدائري في كل القطاعات، فلماذا التأخير؟