الموسيقي عدنان فتح الله ابتكار فكرة العلاقة بين التشكيل والموسيقا عربياً
تشرين- إدريس مراد:
عندما نتحدث عن الأعمال الموسيقية التي استلهمت من اللوحات التشكيلية يتبادر إلى ذهننا مباشرة العمل الموسيقي لوحات من المعرض للروسي موسورسكي مستلهمة من لوحات مواطنه هارتمان، وفعلها أيضاً العديد من الموسيقيين الأوربيين ولكن عربياً لم نسمع عن عمل موسيقي في هذا السياق، غير أن الموسيقي السوري عدنان فتح الله جرّب هذه الفكرة مؤخراً لينسج ثلاثة أعمال موسيقية عبر قراءته لمضمون ثلاث لوحات لأشهر الفنانين السوريين ونفذت كلها بقيادته مع الفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربية، محاولاً فيها التجريب في القيم الروحية والتعبيرية للرنين الموسيقي، ومن يتابع مسيرة فتح الله منذ البداية يرى بأنه يطور أدواته «وعن التأليف أتحدث») من خلال عمق صلاته بالمقامات العربية ليصنع مكانة بين مؤلفي عصره، ويظهر في أعماله عموماً الخيال الخصب والتعبير المختلف، وهو من تربى على الموسيقا العربية الجادة ودرسها أكاديمياً بعيداً عن التأثيرات والثرثرات التي تحصل في موسيقا منطقتنا الآن.
حكاية لوحة
وفي العودة إلى أعماله المستلهمة من الفن التشكيلي نتوقف عند العمل الذي سمّاه «حكاية لوحة» المستلهم من لوحات الفنان نصير شورى، تبدأ الوتريات «الكمان والعائلة» بلحن بطيء وجمل لحنية ومن ثم يدخل الإيقاع بوتيرة أسرع قليلاً، ويعطي الايقاع إشارة لدخول الآلات النفخية النحاسية ومن ثم آلة القانون ويتسارع الرتم رويداً بمشاركة الأوركسترا متنقلاً بين المقامات الشرقية بتسلسل مدروس.
أدرك فتح الله في هذا العمل أهمية الخطوط في اللوحة التشكيلية حيث الخطوط المتحركة إلى الأعلى التي توحي بإحساس المرح والطموح، وتلك المتجهة إلى الأسفل توحي بمزاج الحزن والانكسار، وهكذا بدا بناء جمله اللحنية واضحاً بهذا الاتجاه، إضافة إلى تجسيد الشكل الفني والجمالي بدلالاته وتكويناته المختلفة كاللون الهادئ الذي جاءت فيه السلالم الموسيقية الرومانسية، وعكسه اللون الصارخ.
المدرّس
أما «المدرّس» العمل المقتبس من لوحات الفنان فاتح المدرّس، فيبدأ بحوار بين آلة التيمباني والكمنجات ودخول البيانو بنقرات مدروسة ومعه الطبل الكبير ومن ثم محادثة جميلة بين الآلات الإيقاعية المختلفة، وتالياً مشاركة الفرقة بأكملها وبأرضية لحنية محكمة من مجموعة التشيللو، كما يفتح المجال لآلات النفخ، لوهلة تعتقد أنها من حكايات ألف ليلة وليلة، إذ تقدم صورة سلسة محببة بتناوله الجمل اللحنية وقد صاغها فنياً بأسلوب مرهف جذاب، تسامى بها فتح الله، فنياً بشكل مبسط ولكنه مبتكر، حافلة بلمسات جميلة شائقة مملوءة بجمل إيقاعية ولحنية وهارمونية، ذات قيمة موسيقية تعبيرية غنية من حيث الانفعالات المتنوعة، وإيجاد خصائص جمالية إضافة للتوازي بين إيقاع الخطوط والجمل اللحنية واستطاع تصوير الفراغ والأضواء والظلال والألوان في اللوحة التشكيلية بشكل عام.
تفاصيل
المؤلف الأخير هو «تفاصيل» عن لوحات الفنان محمود جلال، وقد جاء مختلفاً عن أعماله السابقة بإيقاعه ورتمه السريع وإعطائه مساحة أكبر للآلات النفخ النحاسية وأيضا ظهور آلة العود بشكل واضح، تأتي الجمل اللحنية في هذا العمل قريبة من المناجاة وتقترب من التراث أحياناً، بشكله العام.. كما استطاع أن يضع آلات النفخ الغربية في خدمة اللحن الشرقي، وركز فيه على إثارة الحالة المزاجية والعواطف أكثر من التركيز على التعاقب المفصل والإيقاعات التقليدية معتمداً على الموسيقا الانطباعية، إذ استخدم نغمات متناقضة وإيقاعات متدفقة وتغيرات رئيسة وتأثيرات آلية لخلق انطباع بشكل عام، لإنشاء لون من خلال التوافقات والملمس والتناغم الخالي من التوتر وذلك لإضافة اللون والحركة إلى الموسيقا، واستخدم المقاييس الشرقية التي تضمنت الحركة المتوازية والموسيقا الإضافية لخلق الحالة المزاجية ونقل الصور الذهنية.
عموماً، نستنج من الأعمال الثلاثة أن فتح الله قد اعتمد على مؤثرات خصبة من الماضي من حيث القوالب الموسيقية الشرقية والحاضر من خلال التوزيع الموسيقي وكتلة آلات ليست بصغيرة، حولها لعناصر إيجابية في تكوين أسلوبه، يتناول فيها عناصر لحنية وإيقاعية، بعيداً نوعاً ما عن الرتابة المعتادة ولكن بمزيد من الألفة مع موسيقاه الميسّرة بألوانه الموسيقية الجميلة ونسيجه المتشابك في بعض الأحيان، وبنائه المحكم وإيقاعاته المتدرجة.