الشاعر الراحل عادل محمود أحدُ البُناة الأوائل في عالم القصيدة الحديثة
سامر الشغري
لا تكمن أهمية ما قدمه الشاعر والكاتب عادل محمود الذي رحل عن عالمنا أمس في نتاجه الشعري الغني فحسب، بل إنه أحد أكثر الشعراء السوريين المعاصرين الذين نظروا للقصيدة الحديثة، وصنعوا لها أفقاً خاصاً به بعيداً عن أي تقليد.
إن القصيدة الحديثة أو الشفوية كما سمّاها النقاد تدين لمحمود بالكثير، لقد ساعدها على الخروج من القواعد ومن بينها تجنب الكتابة في قضايا خالدة أو عظيمة على منوال الشعراء السابقين، ومقابل ذلك انحاز للموضوع اليومي الذي ينتج مشاعر وانفعالات بقدر ما ينتج شعراً، فكان أحد الشعراء القلة الذين أحضروا الحياة الحقيقية بتفاصيلها الى مشهد الشعر السوري.
كانت لمحمود الذي درس الأدب العربي في جامعة دمشق آراء بخصوص جماهيرية الشعر مخالفة للسائد، فكان يؤكد أن الشعر نخبوي منذ القديم، والصعوبة ليست في جعله جماهيرياً بل بالعكس، إذ لا أسهل عنده من كتابة قصيدة تستدعي تصفيق الجمهور وتفاعله.. أما احتشاد الناس بأعداد كبيرة لحضور أمسيات لشعراء معينين، فهو في رأيه قائم على الذاكرة الانفعالية التي كونها الجمهور حول هذا الشاعر أو ذاك، أكثر من اعتماده على معرفة تجربة الشاعر وأسلوبيته.
لقد قال محمود في هذا الصدد مرة «يكفيني أن يقرأني مئات الأشخاص» ، ليعكس بذلك نظرته الى الشعر كفن إبداعي انتشاره صعب وخاصة الحديث منه، فهو في رأيه ليس زوادة يومية في حياة شعب من الشعوب.
ولم يجد محمود غضاضة من توجه الكثيرين لكتابة القصيدة الحرة، وأعاد ذلك الى نزوع أثير عند الإنسان أن يصبح شاعراً كما نجده عند المراهقين الذين يملؤون دفاترهم وكراريسهم بعبارات على شكل قصيدة، لذلك وجد أن الشعراء العرب كثيرون ولكن نسبة المتمكنين منهم قليلة.
ورغم ان محمود انتمى لجيل السبعينيات من شعراء سورية في القرن الماضي الذين كانت لمعظمهم تجربة في الشعر السياسي، فإنه كان لا يفضل كتابة قصيدة سياسية مباشرة بل كان ينظر الى السياسة كأحد مكونات حياتنا اليومية، وليس على الشاعر أن يحول القضايا السياسية والإيديولوجيا الى قصيدة.
وبوصفه من شعراء الحداثة، فإن نظرته للموسيقا في القصيدة قامت على حضورها بصورة خفية أو صامتة، أما الحزن فهو عنده رديف للشعر فلا أحد يكتب إلا وهو تحت وطأة درجة معينة من الانفعال ومواجهة الصعوبات، لذلك آمن بشدة بأن الشعر مصنوع من مواد مؤلمة ولا توجد مواد فرحة تعطينا شعراً.
وميز الراحل بين القصيدة الومضة والطويلة بصورة مبكرة جعلت الكثيرين يتبنون آراءه لاحقاً، فنظر الى القصيدة الطويلة كمشروع قول مكتمل حول فكرة أو انفعال ما، أما الومضة فهي التي تعطي للقارئ شحنة ذاتية تعبر عن لحظة انفعالية.
محمود الذي ترك لمكتبة الشعر خمس مجموعات كان يعتقد أنه على القصيدة أن تحتوي ظلالاً تمنحها غموضاً بسيطااً، تجعل القارئ يعتقد أن وراء هذه الظلال معاني عليه المشاركة في إكمالها فيصبح جزءاً من لعبة الشعر، كما تمنى إشراك القارئ في الدهشة ذاتها التي تشكلت عند الشاعر لدى كتابته القصيدة.
وكان الراحل يؤكد دائماً أنه لا يستطيع التخلي عن كتابة الشعر الذي مهمته الأساسية مداواة ما هو ناقص في الحياة، وسعى أن يقدمه للناس كي يقرأه من يشبهه في تجربته ويتفاعل معه في التجربة.
محمود الذي بدأ بكتابة القصيدة القصيرة ذات الخاتمة المدهشة والتي تدخل في تفاصيل الحياة اليومية، انتقل الى قصيدة ذات مساحة أوسع وأكثر عمقاً وحكمة لأنه كان يعدّ أنه لا بجدر بالشاعر الثبات في مكان واحد.
وتتميز قصائد محمود عموماً بكثافة شديدة مفعمة بالذاكرة العميقة لكتابة قصيدة متكاملة وناضجة تساعد القارئ على فهم صورة المجتمع وحياة البشر.
غزارة ما قدمه محمود من تأطير نظري للشعر جعله ينظر الى النقد بحذر، فشبهه بالوصفات الطبية التي إن لم تكن دقيقة فإنها تعطي نتائج خطرة، بل إنه عدّ أنه لا يوجد نقد يواكب تجارب الشعر الحديث.
وكان غريباً ذلك الطرح المبكر الذي طرحه محمود لحضور الشاعر زمن الحرب في السنوات التي سبقت أحداث 2011، إذ استقى من مشاركته كضابط مجند في حرب تشرين التحريرية ليقول إنه على الشاعر في زمن الحروب أن يختبأ دائماً، مقابل حضور طاغ للمقاتل والمقاوم، أما دور الشاعر فيأتي لاحقاً عندما تبرد ساحة المعارك لاستبطان هذه المشاهد البصرية العنيفة والذكريات التي رآها لتظهر في مكان مختلف من القصائد.
وإضافة إلى الشعر ترك لنا محمود مجموعة قصصية اسمها «القبائل»، وكتاب «ضمير المتكلم» الذي جمع فيه كتاباته الصحفية، أما الرواية التي ترك لنا فيها ثلاثة أعمال، فاستحوذت على وقته في السنوات الأخيرة، بدءاً من « إلى الأبد ويوم» التي استحق عليها جائزة دبي للثقافة سنة 2007، وآخرها «قطعة جحيم لهذه الجنة» التي صدرت عام 2017، وجاءت في صورة 12يومية توثق لتفاصيل مؤلمة من الحرب في مناطق سورية شتى.