لأنها على أرض الجزائر
تشرين- عبد المنعم علي عيسى:
منذ أن انطلق المؤتمر التأسيسي لجامعة الدول العربية بأنشاص في أيار عام 1946 انعقدت ثلاثون قمة كان منها على أرض الجزائر ثلاث قمم عربية تميزت كلها بأنها جاءت في مواقيت شديدة الحساسية تبعاً للظروف التي انعقدت فيها، فالأولى التي انعقدت 26 تشرين ثاني 1973 كانت بعد قبول العرب للقرار 338 الصادر عن مجلس الأمن بخصوص وقف إطلاق النار، وفيها خرجت القمة بشرطين للسلام أولاهما انسحاب “إسرائيل” إلى حدود 4 حزيران 1967، وثانيهما استعادة الشعب الفلسطيني لكامل حقوقه، والمؤكد أن مخرجات القمة محاولة لترجمة الانتصار العسكري إلى مكاسب سياسية، والثانية الطارئة كانت في 7 حزيران 1988 التي انعقدت بدعوة من الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد بهدف دعم الانتفاضة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، وإدانة العدوان الأمريكي على ليبيا الذي جرى في نيسان من العام 1986، في محاولة لتهيئة مناخات داعمة لتلك الانتفاضة ولإرسال رسالة واضحة للغرب حول ضرورة احترام سيادة الدول، أما الثالثة فكانت في 22 آذار 2005 أي بعد مرور خمسة أسابيع على اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري الذي أريد له أن يكون زلزالاً يعصف بالمنطقة على امتدادها انطلاقاً من مركزها السوري، الأمر الذي تكشف من خلال «الاستثمار» الذي راحت تمارسه قوى عربية، مدعومة غربياً، لإحداث انزياح في مركز الثقل العربي تصبح معه دول الخليج، بقيادة سعودية، المحور الأساس و«بيضة القبان» التي كانت ممثلة بمحور دمشق- القاهرة على مر مراحل التاريخ، والمؤكد أن سلسلة الانهيارات الحاصلة في المنطقة قبل نحو عقد من اليوم كانت تعبيراً عن ذلك الانزياح الحاصل بفعل انكفاء مصر عن دورها التاريخي بعد نجاح الغرب في دفعها وراء حدودها منذ أواخر السبعينيات، ومحاولة تحجيم الدور الإقليمي السوري، الذي جرى بعد شباط 2005، إتماماً لذلك الفعل.
كان من المقرر للقمة العربية الواحدة والثلاثين، التي ستنطلق أعمالها بالجزائر اليوم، أن تنعقد العام الماضي على أرض الجزائر التي أعلنت حينها وعلى لسان رئيسها أن «قمة عربية، من دون حضور سورية، لن تنعقد على أرض الجزائر» والتصريح إياه، الذي يصح وصفه على أنه أهم قرار تتخذه دولة عربية ما بعد هبوب رياح ما يسمى «الربيع العربي» عام 2011، كان تعبيراً عن إصرار جزائري آنذاك، والذي استمر حتى مطلع خريف هذا العام قبيل أن «تحل» دمشق الجزائر من وعدها ذاك، وهو يحمل في حيثياته محاولة لإعادة التوازنات القائمة في المنطقة بما يعيد منظومة الأمن الإقليمي التي كانت قائمة قبل قمة الجزائر 2005 إلى سابق عهدها.
كانت حرب حزيران 1967، التي حدثت هزيمتها بفعل ظروف دولية شديدة التعقيد من دون أن يعني ذلك انتفاء مسؤولية الأنظمة العربية في ذلك الفعل، ترمي إلى التأسيس لبدء مرحلة انحسار القومية العربية والفكر القومي العربي، مفسحة المجال بذلك لحلول نزعات سيادية ضيقة في بعضها، وأخرى تابعة لـ «الإسلام السياسي» في بعضها الآخر، والمؤكد هو أن ذلك المشروع كان قد حقق نجاحات وازنة لا بأس فيها، والشاهد هو المآلات التي سارت المنطقة إليها ما بعد الهزيمة، وهي في المجمل عملت على تصدير صورة واقع عربي مأزوم بدرجة تثير رغبات الخارج الذي راح يشحذ سكاكينه لتقطيع أوصالنا من الوريد إلى الوريد إن استطاع.
مشروع الجزائر، الذي تشي به مواقفها وطبيعة تحركاتها السياسية، يقوم، في الإيديولوجيا، على ضرورة إحياء القومية العربية كضرورة حضارية لا بديل لنا عنها، وكهوية يعرفنا بها العالم لا غنى عن حملها، ويقوم، في الخط السياسي، على ضرورة تغيير الواقع والدور، العربيين، بما يجعل من «الكتلة العربية» ثقلاً وازناً في المنطقة يمكن من خلاله فرض معادلات جديدة قادرة على تحقيق مصالحهم، وإذا ما كان المحور الأول، الإيديولوجي، من الصعب أن يلقى إجماعاً قياساً لارتباط العديد من الأنظمة العربية بمحاور خارجية لا تزال تدعم مشاريع نقيصة من نوع «الإسلام السياسي»، فإن من المقدر للمحور الثاني، الخط السياسي، أن يحظى بقبول كبير، خصوصاً أن الولايات المتحدة تسعى اليوم لإقرار قانون يقضي بمعاقبة «أوبك بلس» بعد تصويتها الشهير 5 تشرين الأول المنصرم على تخفيض إنتاجها من النفط بمقدار مليوني برميل يومياً، والمؤكد هو أن القرار سيكون مفصلاً على مقاس دول الخليج بالدرجة الأولى.
هذا «القبول» قد يؤسس لمصالحات كبرى مع الذات ومع الآخر، وقد يؤسس أيضاً لمرحلة جديدة من شأنها أن تصدر للخارج صورة جديدة عن عالم عربي متلاحم، أو أقله، متضامن، وهو أمر فيما لو نجحت الجزائر فيه فلسوف يكون مقدمة لاستعادة «كتابة تاريخنا» بعد أن اقتربنا من أن نصبح خارجه.