المكتبة من الجِمال إلى الكمبيوتر أين المتبجِّحون بعدد كتبهم من “الصاحب بن عبّاد”؟
تشرين- بديع منير صنيج:
يتفاخر البعض في هذا الزمن، بأن مكتباتهم تحوي ألفي كتاب، وبأن فيها من الكنوز ما يزيد على خمسة آلاف عنوان، وغيرهم بأن مكتبه تتضمن أكثر من عشرة آلاف كتاب مُصنَّفة بدقة، ومرتَّبة أكثر من المكتبات العامة.
وبالمقابل بات هناك ما يمكن تسميته “تبجُّحاً إلكترونياً” لبعض الأشخاص، بأنه يحتفظ على “فلاشته” الصغيرة بآلاف الكتب من مختلف الصنوف، وآخر على حاسبه الذي يحمله أينما حلّ، يتضمن ملفات PDF لكتب لا تتسع لها مكتبة الإسكندرية بجلال قدرها، لكن بعيداً عن العدد وآليات التصنيف وعادات القراءة، مَنْ مِن أولئك استطاع أن يُماثِل شخصية “الصاحب بن عباد” الذي امتلك أكبر مكتبة متنقلة في التاريخ؟ ليس من ناحية أعداد الكتب التي تشتمل عليها، والتي جاوزت مئة وسبعة عشر ألف كتاب، ولكن من جهة عمق الاطلاع على محتواها، والقدرة على النقاش في مضامينها، بمختلف أصناف العلوم والأدب، والتي جعلت من “الصاحب” شخصية بارزة على كافة الأصعدة الثقافية والمعرفية والسياسية والأدبية في أواخر القرن العاشر الميلادي.
كتب الأورغوياني إدواردو غليانو في مؤلّفه الشهير “أبناء الأيام” تحت عنوان “الذاكِرة الجوّالة”: “في تاريخ البشرية كله، كان للكُتب ملجأ آمِن واحد من الحروب والحرائق: المكتبة الجوّالة التي كانت فكرة خطرت لوزير بلاد فارس الأكبر، عبد القاسم إسماعيل، في أواخر القرن العاشر.
إنه رجلٌ حذرٌ، فذاك الرحَّالة الذي لا يملّ السّفر، كان يحمل مكتبته معه، أربعمئة جَمَل تحمل مئة وسبعة عشر ألف كتاب، في قافلةٍ تمتدّ كيلومترين طولاً، وكانت الجِمال تُستخدَم أيضاً فهرساً للكتب، كل مجموعة منها تحمل العناوين التي تبدأ بواحدٍ من حروف الأبجدية الفارسية الاثنين والثلاثين.
أما الأرجنتيني ألبرتو مانغويل فيشرح في كتابه “تاريخ القراءة” بأن “سائقي تلك الجِمال خدموا بفعالية كأمناء مكتبة، إذ بإمكانهم تحديد موقع أي من العناوين التي طلبها الوزير بسرعةٍ بمُجرّد الرجوع إلى الفهرس المُتاح.
ثم تأتي الباحِثة في تاريخ المكتبات مورين ساوا ومؤلِّفة “كتاب المكتبة: قصة المكتبة من الجِمال إلى الكمبيوتر”، لتعتبر خلال رحلتها الشاقّة في أصول المكتبات بأن “عبد القاسم إسماعيل هو واحد من أبطال المكتبة المألوفين مثل “غوتنبرغ” و”بنجامين فرانكلين”، لكنه الأكثر غموضاً، مثل “هيباتيا” أمينة مكتبة الإسكندرية العظيمة التي قُتِلَت على يد مجموعةٍ من الغوغاء لمُعارضتها تعاليم أفلاطون، وأكثر ما يُميّزه أنه امتلك “مكتبة تدرَّبت على المشي” لأن الجِمال التي تحمل آلاف الكتب كانت تسير وفق نظام دقيق، يختلف عن “نظام ديوي العشري” لكنه لا يقلّ أهمية عنه في ذاك التاريخ”.
الوزير الفارسي “عبد القاسم إسماعيل” ومكتبته الضخمة، هو ذاته “أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن العباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني” المُلَّقب بـ”كافي الكفاة”، والمعروف أكثر بـ”الصاحب بن عباد” الذي جاء ذِكر مكتبته في مُقدّمة كتاب “مختار الأغاني” لابن منظور الإفريقي، مُتضمّناً وصف ضخامة قدرِها وكثرة مؤلّفاتها التي تشتمل على مئة وسبعة عشر ألف مجلد، جعلته عندما استدعاه “نوحُ بن منصور أحدُ ملوك بني سامان” ليولّيه الوزارة يعتذر بأنه “لا يستطيع حمل أمواله، وأنَّ عنده من كُتب العِلم خاصّة ما يُحمَل على 400 جَمَل أو أكثر، وأن فهرسها يقع في عشرة مُجلّدات”، كما جاء في كتاب “وفيات الأعيان” لابن خلكان، ما يجعل كُتُب تلك المكتبة الضخمة المملوكة لرجلٍ واحدٍ عاش في القرن العاشر الميلادي “أكثر ما يمكن إحصاؤه في كل مكتبات أوروبا مجتمعة” حسبما جاء في كتاب “الحضارة العربية” للمُستشرِق الفرنسي والأستاذ في معهد باريس للدراسات الإسلامية جاك ريسلر.
ولد الصاحب بن عباد في إحدى كُور فارس باصطخر أو طالقان في 16 ذي القعدة سنة 326هـ/ 938م، وتتلمَذ أول أمره لأبيه عباد، وكان من أهل العِلم والمعرفة. وإضافة إلى كونه وزيراً لركن الدولة البويهي، وقد صنّف كتاباً في أحكام القرآن الكريم، وكان مُناصِراً ومؤيِّداً للمُعتزلِة وآرائهم، كما تتلمَذ الصاحب على أبي الفضل محمّد بن العميد، ولازَمه وأخذ عنه، وتولّى منصب الكتابة لديه.
ولما نجح نجاحاً عظيماً، لما يتميَّز به من ذكاء وسرعة بديهة إضافة إلى عِلمه الواسع، ودراسته الأدب وتذوّقه اللغة العربية عن أبي الحسن أحمد بن فارس صاحب كتاب “المُجمَل في اللغة”، رشَّحه ذلك ليكون كاتباً للأمير مؤيد الدولة بن ركن الدولة بن بويه الذي اصطحبه معه إلى بغداد عام 347 هـ وسجَّل الصاحب مُشاهداته ومُطارحاته الأدبية ضمن كتاب أسماه “الروزنامجية” أي “اليوميات”، ورتَّبه على شكل رسائل إلى مُعلّمه أبي الفضل بن العميد.
ثم تقدّمت الحال بابن عبَّاد بعدما نال ثقة مؤيد الدولة الذي لقَّبه بعد تلك الرحلة بـ”الصاحب كافي الكفاة” واستوزره عام 366هـ واستمر وزيراً في عهد فخر الدولة وحتى وفاته عام 385 هـ/ 995 م.
تلقَّى “الصاحب” العلم والأدب عن أساتذة أعلام بارزين لم يكن يحلم طلاب العِلم بشيء أسمى من التلقّي عنهم. فدرس عليهم اللغة بنحوها وصَرفها وفُقهها وعروضها وسائر فروعها، كما درس العلوم الإسلامية من تفسيرٍ وحديثٍ وفلسفةٍ وكلامٍ وما شاكلها، حتى نال من كل ذلك ما أهَّله للبحث والتأليف في تلك الموضوعات مع الإتقان والإبداع والإجادة.
وبرز “أبو القاسم” كأديب كبير، وكثر حديث الأدباء عنه واختلفت آراؤهم فيه، حتى أصبح حديث المراجع الأدبية والتاريخية المُعاصِرة له والمُتأخّرة عنه، وقام الإجماع حول الاعتراف به ككاتب بليغ، وشاعر مجيد، وذي نظر صادق في النقد، وصاحب منهج خاص في النثر.
وإلى جانب الأدب شاع نبوغ “أبو القاسم” في العلوم كافة، لدرجة أنه عُدّ في العِلم في عِداد “الكليني” و”الصدوق” و”المفيد” و”الطوسي”، ووصفه محمّد شفيع الجزائري الموسوي التستري في “حواشي نقد الرجال” بأن “أفقه يماثل فُقهاء أصحابنا المُتقدّمين والمُتأخّرين”، وعدَّه “من رؤساء المُحدّثين والمُتكلّمين”، بينما اعتبره الثعالبي “أحد أئمة اللغة” الذين اعتمد عليهم في كتابه “فقه اللغة” وجعله في مصاف “الليث” و”الخليل” و”سيبويه”.
مؤلّفات “أبو القاسم بن عباد” وكُتبه كثيرة منها: “الإمامة في تفضيل أمير المؤمنين”، “نهج السبيل في الأصول”، “التذكرة”، “التعليل والأنوار”، “الفصول المُهذّبة”، وصنّف في اللغة كتاباً سمّاه “المحيط” ويقع في سبعة مجلدات رتَّبه على حروف المعجم. كما ألَّف “الكافي في الرسائل”، “الوزراء”، و”الكشف عن مساوئ شِعر المُتنبي”، إلى جانب كتابين في العروض، وكتابين في الطب، وعدّة كُتب في الأدب والشعر، حتى قاربت مؤلّفاته الثلاثين.
وفي الشعر كان “الصاحب” مجيداً بليغاً متمكِّناً من الصَّنعة والبحور، حتى أن السيّد ابن معصوم ذكر أن أبا القاسم قال قصيدة معرّاة من الألف في مدح أهل بيت رسول الله، فتعجّب الناس منها وتداولتها الرواة، واستمر على تلك الطريقة وعمل قصائد، كل واحدة منها خالية من أحد حروف الأبجدية.
وبقيت عليه واحدة تكون خالية من الواو، فانبرى صهره فجعلها في مدح “الصاحب” الذي توفى سنة 385هـ/ 995م بالرَّيّ ودُفِن في أصفهان.
فأين المتبجحون اليوم بعدد كتبهم من تلك الشخصية البارزة فكراً وتأليفاً ولغةً؟!