سعيد عقيل دومريٌّ يشعلُ قناديلَه فوق أزقة القصائدِ العتيقة
تشرين-راوية زاهر:
يعنون الشاعر سعيد عقيل مجموعته الشعرية الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب بـ(دومري)، ودومريٌّ لا يملّ الحياة في عتمة الدروب، حيث ينسج من عيون الشّعر أبهاه، متنقلاً بين فراشات القصيد الحرّ تارةً والموزون تارةً أخرى ليعود وينقاد له الوزن طائعاً في شعر التّفعيلة.
وهكذا بثلاثة وثلاثين نصاً شعرياً أتحفنا بها الشاعر، هائماً، متعبّداً، ناسجاً قصائد لأمّه وقريته (ذيبين)، معربشاً فوق مواسم الشّوك والاشتياق، مراقباً الأمداء من ثقب العفاريت، وموجهاً رسائله إلى ولده وابنته، متلهفاً، تعباً، فكان شاعر الانتظار، معلناً حلماً بارداً، موقِداً فوانيس القلب وعلى موعد كان مع فوانيس آخر الليل.
في العنوان
عتبة النّص الأولى التي لايمكن العبور من خلالها من دون التوقف مليّاً عند هذه اللفظة غير العربية المنشأ والأصل.. الدُّومري: عنوان لإحدى قصائد الكتاب، وقد انتقاها الشّاعر بعناية ليجعلها عتبة كتابه النصية الأولى، معنوناً بها كامل المجموعة الشّعرية.
والدّومري بمعناه المعجمي هو ذاك الغريب الوحيد الذي يشعل قناديل الأزقة القديمة في عمق الأزمنة الغابرة..
أنا الدّومريّ العتيق،
أترك الضوءَ خلف خُطاي،
أحفظُ لون النّوافذ،
أفهم صمتَ القناطر،
أمتصُّ آثارهم،
وحزني؛
أنا الدومريّ
آخر النازحين من صقيع الطّريق..
ركّز الشاعر على القصيدة كمعادل موضوعي لكل ما أراد تحميله للمتلقي؛ فحكى عن أوزانها وصورها وقوافيها.
أنا الجاهليّ الذي مزّقتني القبيلة
أمتدّ مثل الهلامة في كل عام
وعن الشاعر وعشقه المسفوح فوق جغرافيا الياسمين
كان للشاعر موقف غريب ذو بعد تراجيديّ من دمشق وبردى، من قاسيونها وترابها وجامعها الأموي،
وقد أخذنا من قصيدة قارئة الكف هذه المقتطفات:
افتحي كفي برفقٍ
واقرئيها مرّتين
مرّة أولى بدمع الأرض،
والأخرى بدمع العين…
فعلى كفّي غبارٌ من تراب الشام.
وهو هنا يختصر الشاعر علاقته الوجودية بدمشق، فكان حزيناً فيها حارساً للأرق.
في الحديث عن اللغة
بدت لغة الشاعر عصماء شاعرية يجول فيها البيان مترنحاً، والمجاز يركب صهوة الخيال معرشاً على كرمة القصيد، فكثرت الصّور بجمالياتها وبيانها، وسنورد بعض الأمثلة عنها:
(قصيدتي امرأة عجوز)، (قصيدتي تعلك الأخبار) استعارة مكنية بتوصيف دقيق.. (جسد السّرير)، (أغسل بالزيت شعر السنين.)، (جسدي المجوّف معبرٌ) (يدي رصيف)، (يا رياح الشمّال والحرب وحش.)، (شجر البلاغة)، (أنا التراب).. هكذا نلحظ حضور التشبيه البليغ، والبليغ الإضافي بقوة والاستعارة المكنية راسمة بخطا مبدعة فواصلاً للجمال وترانيم للحنين.. كما لم تخلُ بعض النّصوص من تقنية التناص، إذ تعيدنا إلى مفردات الدّين والعبادة من قبيل:
(إني أحبّك حد التصوّف:
حيّ على حبها للصلاة)
(فهزي بجذعيَ
أساقط الآن لوزاً)
وحضر المجاز في قول الشاعر :
(خرجت لغات الملح
من بين المسام)
وكذلك استخدم عقيل الحروف الهامسة خارجة من أعماق النّفس في نغمات حارّة:
(سأزرع في كل حقلٍ جنين)، (سأغسل أعوامي الأربعين)، كما عجت نصوص المجموعة بالميل إلى الإنشاء بنوعيه الطّلبي وغير الطّلبي فلمسنا حضور صيغة الأمر والنّهي والاستفهام والنداء. (هل رأيت كيف تبكي إصبعي؟).. أمّا عن الرّمز فسنقول: الرقم خمسون الذي تكرّر كثيراً، هل هو عمر الشاعر، أم تاريخ وجع ونكبة ما…؟ وأنتظر الهدهد.. أي رمزٍ يحمله معنى الهدهد؟، وخاصة أنه طائر له مكانته المقدسة عند نبي الله سليمان وما حمله من بشرى سارة له، وكذلك الجدار:
نجلس عند الجدار
ونأكل عند الجدار
ونرقب ثقب العفاريت
عند الجدار.
هل هو رمز الضعف والتخلف والاستعباد؟.
ليعيد ويذكر الملح كثيراً، ويُترَك للملح رمزية البياض والتصحر والجفاف، ربما محاولة مواربة لإعلان شكوى خفية ضد واقع كل ما فيه مثير لوجع السّلام والطمأنينة.. وكذلك استخدامه في مواقع كثيرة للفظ الخيمة الحاملة لمعنى الرّحيل والتّشرذم والضّياع.
عن الوزن والموسيقا
أمتعنا الشاعر بالتنوع الذي يحمل بين الحروف شواغل الإبداع المنظّم ما بين حرّ وتفعيلة وموزون مقفى، جالت أبصارنا واستمتعنا بأجراس القوافي.
فقصيدة (حنين الثكالى) قصيدة موزونة قامت على تفعيلات البحر الخفيف، مطربة إيانا بوزنها الرّشيق: فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن.. بحر واسع يتسع لينقل لنا وجع الفاقدات في حربٍ غشوم:
يا رياح الشمال، والحربُ وحشٌ
إنّ دمع النساء في الحرب غالِ.
ليختم شاعرنا كتابه بنصوص موزونة، تحمل حزناً ووحدة وسوداوية محاولاً بيع نظره وسمعه والقصائد والبيان، سراجه، شعرائه وقوافيه واللسان، ففي هذا الزمان حصانٌ واحد يكفي..