لا يختلف مشهد الفساد المتكشف في “حبوب” حلب عبر سرقة أقماح مخصصة لصناعة رغيف الخبز، عن تجاوزات السماح بتشييد أبنية عشوائية مخالفة قد تنهار في أي لحظة، ولا عن التقصير بمعالجة شبكة الصرف الصحي المهترئة، أما ملف المحروقات الدسم فحدّث ولا حرج، فداءُ الفساد يتمدد في العاصمة الاقتصادية بقوة وبأشكال مختلفة، لكن خطره يبقى واحداً على كافة الصعد وخاصة المعيشي والاقتصادي.
مليارات الأقماح المنهوبة من الخزينة والمقدرة بـ37 مليار ليرة ذهبت إلى جيوب أصحاب المطاحن الخاصة بالتشارك مع بعض العاملين في المؤسسة العامة للحبوب، سبقتها مليارات أخرى شفطها أصحاب الكازيات وباصات البولمان وشركاؤهم الفاسدون في هذه المؤسسة أو تلك عبر التلاعب بكميات المازوت والبنزين، في وقت تتحمل الخزينة تكاليف باهظة لتأمين السلع المدعومة، لتكون الخسائر مضاعفة، مرة عند دفع فاتورة الاستيراد المرهقة، وأخرى عند بيع هذه المواد نهاراً في السوق السوداء من دون محاسبة ولا هم يحزنون، باستثناء حالات قليلة تكاد لا تذكر، ومنها قضية الأقماح، حيث ذُكر الفاسدون بالاسم مع الحجز على أموالهم المنقولة وغير المنقولة، وهذه خطوة جيدة لكن هل سيتم استرداد هذه الأموال في ظل تضمين القرار أداة الشرط “إن وجدت”، فالفاسدون غالباً يستشعرون خطر الكشف عن تجاوزاتهم فيلجؤون إلى حيلهم المعهودة بنقل أموالهم إلى أشخاص آخرين أو يهربونها إلى خارج البلد، إن لم ينجحوا في لفلفة القضية وكأنك يا “أجهزة رقابية ما غزيت”، ما يوجب تطبيق القانون وخاصة قانون حماية المستهلك الجديد بعقوباته المشددة على المتاجرين بالمواد المدعومة سجناً مع غرامات مالية كبيرة، لكن الأهم الإلزام بدفع كامل المبالغ المسروقة من الخزينة وجيوب المواطنين.
المتاجرة بالمواد المدعومة، وغيرها من ملفات الفساد الوازنة يفترض ألا تمر مرور الكرام، عبر محاسبة علنية للمتورطين، لمنع التجرؤ على سرقة المال العام، وهذا يتطلب خطوات عديدة منها اتباع مديريات الرقابة الداخلية إلى هيئة مستقلة تعنى بمكافحة الفساد تضم تحت أجنحتها كل أجهزة الرقابة والتفتيش بغية الحد من التدخلات المشبوهة، مع نشر قوائم بأسماء الفاسدين في كل ملف وكشف تجاوزاتهم، فـ”الجرصة” الاجتماعية قد تكون عقاباً نافعاً للفاسدين الذين يفترض تجريدهم من ثرواتهم وإعادتها إلى الخزينة وتوظيفها في قطاعات تصنف “منتجة” بآلية تضمن وقوف اقتصادنا على رجليه بلا عكازة الاستيراد العرجاء، وترفع معيشة محدودي الدخل، وتحسن أداءهم الوظيفي بدل دفعهم للتفكير بالاستقالة عبر سند بحصة “الرويتب” وترقيته إلى مصاف “راتب” فعلي ولاسيما أن أموال الفاسدين إن حصّلت تكفي لرفع الأجور أضعافاً.
رحاب الإبراهيم
68 المشاركات