“الفنان المجنون”
رُبما لا تكون قصة “الفنان المجنون” لأوّل روسيٍّ حاصلٍ على نوبل في الأدب “إيفان بونين” 1870-1953، الأفضل للتعرّف على نِتاجه الإبداعي، لكنها في حدّ ذاتها توليفة غير اعتيادية من رموزٍ يُمكن إسقاطها على البشر أينما وُجِدوا، وإن كانت تُحاكي هنا واقعاً بائساً يعيشه رسّامٌ غير مُتزن، يزور فندقاً في مدينةٍ روسيةٍ قديمة عشية ليلة الميلاد، تتزاحم الهواجس والأفكار في رأسه، من دون أن يكون أحدها واضحاً أو منطقياً أو مُفضياً إلى غيره، فالرجل يُعرِّف عن نفسه منذ البداية بكلمتين “أنا فنان”، يُخبر العامل في الفندق بأنه سيُنجِز عملاً انتظره طوال حياته، مُشيراً إلى خاتم زواجٍ نسائي، يرتبط بعهدٍ قديم قطعه على نفسه عندما كانت زوجته تحتضر، لذلك يحتاج الغرفة الأكثر سطوعاً في جهةٍ غير الشمال تحديداً.
خلال رحلة البحث القصيرة عن القماش والألوان اللازمين للعمل، واللذين لم يتمكن من جلبهما معه بسبب حربٍ ما، يخوض الرسّام أحاديث مُشابهة عن عملٍ فنيٍّ مُستعجل اكتملت فكرته ونضجت، لذلك يجب رسمه سريعاً كما لو أنه مسألة حياةٍ أو موت، ما ينسحب لاحقاً على الموضوع المُراد رسمه عن الميلاد ومغارة بيت لحم، تعبيراً عن ولادة إنسانٍ جديد، وسرعان ما تنتهي الأحداث الحاصلة في يومٍ واحد، برسمٍ مُفاجِئ يتناقض مع أحلام الفنان وكلماته المُؤكِدة سعيه إلى رصدِ حالةٍ وحيدة للأم العذراء ترفع طفلها للعالم، والنتيجة ألوانٌ مُكدسة بشكلٍ رهيب، تشتعل فيها السماء بنيرانٍ تُدمّر المعابد والقصور والمساكن، وفي أسفل اللوحة تجمّع فوضوي من القتلى، ومزبلة وخلافات وشجار بين الأحياء، وخليط من الأجساد العارية وأيادٍ ووجوه لها أنياب.
هذا التباين بين الحلم، والنتيجة الجاثمة كجبلٍ ضخم، يوازي أكوام الأمنيات التي تتحوّل إلى وقائع أخرى بلا توقف، حتى تُصبح العودة ولو بالتفكير إلى ما مضى، غير مُجدية، وهو ما يقوله الكاتب أكثر من مرة بأشكالٍ مُختلفة في النص، من بينها إصرار الفنان على منح الرسم على أهميته لعامل الفندق الذي لم يأتِ لاستلام الهدية، عدا عن شكٍ غير مفهوم يدفعه ومديره للتنصت على الضيف المُريب، ولعلّ ما يجب التوقف عنده أيضاً ما أمضاه الرسّام من سنواتٍ سابقة، أتبعها بساعاتٍ في الموعد المُنتظَر لإقناع نفسه بأنه يستطيع ويجرؤ على كل شيء، وبأن خيالاته السوداوية تخلّت عنه أخيراً، لكنه يهذي ليس إلّا.