الكتاب نفسه، لكن بطبعة “شعبية”. الغلاف تغير من لوحة لفنان شهيرٍ معاصر رسمها من وحي مضمون الكتاب، إلى زخرفةٍ بسيطة لم تهتم المطبعة بفرز ألوانها لذلك بدت مختلفة بين نسخة وأخرى من حيث شدة الحمرة والزرقة ووضوح الخط في العنوان!
أقلّب صفحات الطبعة الشعبية وهي من ورق كامد اللون وأقرأ ما سبق أن قرأته في الطبعة الفاخرة من دون زيادة أو نقصان، عدا أن الهوامش غير متناظرة أعلى الورقة أو يمينها وأن الخرّازة جارت على بعض ملازمه وحزّت الورق بقسوة ومزّقته حول الخَرْزة المعدنية!
لأن الطبعة “شعبية” فهي تتحمل التنقل من غرفة الجلوس إلى المطبخ أو الشرفة أو حقيبة اليد لاستكمال قراءة الصفحات من دون خوف من التلف أو نثرة ماء أو مشروب يرافق القراءة! إنها “شعبية” مثل الملابس الرخيصة التي تُبتذل في العمل المنزلي أو الورشات المهنية، لذلك لا حاجة لالتزام التأنق في السلوك لحفظ القيافة في حفلٍ فاخر!
متى بدأ الكتاب يخرج بطبعتين، واحدة فاخرة، وأخرى شعبية؟ لا أعلم! تنقطع عندي الأفكار في عهد الخلفاء الذين كانوا يرعون العلماء ويقتنون الكتب كنوع من تخليد عصورهم كما القصور والحدائق والقلاع، ثم تقتحم الطباعة حياة البشرية فيصبح الكتاب متاحاً لعشاق القراءة ثم تنهض دور نشر لتحتكر نشر الكتب وتأخذ التكاليف من القارئ من دون أن يحق له الاعتراض أو المساومة على السعر، ثم يمر بي خبرٌ عن الرئيس الفنزويلي “أوغو تشافيز” الذي أمر بطبع وتوزيع مليون نسخة من رواية “سرفانتس” “دون كيخوته” على شعبه وفي نفسه غاية وهدف لسنا في صددهما، بل في صدد الطبعة الشعبية بعدد نسخها المهول والقدرة عليه خلال زمن قياسي قصير، ما يحصر طبع وتوزيع هذا النوع من الكتب بيد الجهات الرسمية التي تريد جعل الكتاب بيد كل راغب من ذوي الدخل المتواضع!
الطبعة الشعبية فيها إغراء لا يُقاوم رغم “رداءة” مواد الصنع لأنها لا تمس المضمون بمجرد أن تنزله من علياء الميسورين كتّاباً ودورَ نشر وأصحابَ مكتبات منسقة، فهي فريدة في عالم المعرفة والثقافة الإنسانية بحيث لا تشبه مثلاً اللوحة المزوّرة أو التاج الماسيّ المقلّد أو القطعة الأثرية المنسوخة، وعلى ضفة أخرى لا تباع الطبعة الفاخرة في مزاد علني كبدعة المزايدة على لوحة انتقلت من قصر إلى آخر أو قطعة من متعلّقات شخصية مشهورة راحلة! وكأن الكتاب قيمتُه بذاته سواء كان على ورق صقيل أو ورق هش، يفرح صاحبه كثروة لا تُقدر بثمن، وهذه المرتبة العالية كامنة فيه ووقّع عليها الزمن توقيعاً مبرماً لا يتبدل!
نهلة سوسو
123 المشاركات