الشاعر النجم
تتجذرُ الحكايةُ من زمانٍ ومكانٍ بعيدين جداً، من الجزيرة العربية قبل الإسلام بمئتي سنة على الأقل؛ عندما كان لكلِّ قبيلةٍ عربية شاعرها النجم، ذلك أنه هو نفسه؛ كان يُمثّلُ مؤسسةً إعلامية متكاملة، أو لسان حال القبيلة، في “الغواية” كما في “الرشد” على ما أكدَّ دريد بن الصمة ذات حينٍ عربيٍّ قديم:
وهل أنا إلّا من غزّيةٍ إن غـوت
غويتُ، وإن ترشد غزّيـة أرشدِ
أتحدثُ هنا عن الشّعر والشاعر وحسب، وليس عن أي مبدعٍ أو إبداعٍ آخر، ذلك أن العرب يُمكن أن يُفاخروا بالشعر دون غيره، فما أبدعوا فيه بغير الشعر؛ كان “على قد الحال”، ولا يغرنّكَ التكرار الطويل لجملة حنا مينه التي قالها حين نشوة؛ من إن “الرواية ديوان العرب”، وكان على القومِ أن يرددوها بعده بلا هوادة.!!
ثم جاء الشاعرُ القطب، ذلك الشاعر الذي كان نجماً لمرحلةٍ ما، أو لجيلٍ شعري كما يُحب النقاد أن يطلقوا عليه.. ذلك الشاعر الذي كان على وسائل الإعلام أن تترنمَ باسمه صباح مساء كطقسٍ، ومن ثم كانت “القطبية” في هذه الحالة صناعة إعلامية أكثر منها حالة إبداعية حقيقية، وهو الأمر الذي وضع الاسم مكان النص.! حتى ليبدو أمر هؤلاء “الشعراء النجوم” وكأن الرداء هو من يصنع الكاهن، وليس العكس، أكثر من النص الذي أتى بالشاعر، وتحت هذا الرداء، فقد تمَّ إطفاء الكثير من المبدعين اختناقاً بالجبة بكلِّ ما في “بيت قصيدهم” من إبداع، فيما طفا على السطح الكثير من الأردية الأقرب إلى الفزاعات الشعرية.. نجومٌ طغاة ثقافة، برزوا أكثر بأسمائهم أكثر منه بنصوصهم، والأمثلة أكثر من أن تُعد في هذا المجال، كان طغيانها بمثابة مجزرة شعرية بحق الكثير من الشعراء الذين لم يتوفر لهم منبرٌ إعلامي لأكثر من عشرات الأسباب.. صحيحٌ أن الكثير من أسماء الشعراء النجوم لا أحد يستطيع أن ينكر شعريتهم العالية، لكن مع انتشار الاسم، نسأل: كم هم الذين قرؤوا نصوصَهم؟! أو عرفوهم عن طريق نصهم الشعري، وليس بطغيان الاسم وحسب ؟؟!.. ذلك ما كان حذّر منه أدونيس ذات حين، بل خشي منه لدرجة كبيرة عندما دعا لتخفي الشاعر وعزلته وإبراز نصه أولاً، ورفض التغول سواء كانت سلطة الشاعر أو المنبر، بل كان دائماً ما ينقلب على نفسه في كل مرة لتحديث نصه، أو تغيير ثوابته التي ينتابها “المتحوّل” في كلِّ مرة، وهذا ما أكدّه أيضاً كاتب كبول شاوول في إحدى حالات نزقه الكثيرة.
هامش:
وأنا
الكائنُ في احتمالات
موسم قطاف نعنع الشفاه؛
تماماً
كاحتمالات الأرغفة
في حقول القمح،
أو
كاحتمالات الناي
في قصب الضفاف،
وأخيراً
كاحتمالات النبيذ
في العنب..