الشعر سِجلُّ خلاصٍ ونافذةٌ على الغموض!
جواد ديوب
هل يمكن تعريف الشعر؟ يقول القديس أوغسطين: “ما هو الزمن. إن لم تسألوني ما هو، فإنني أعرفه، ولكن إن سألتموني، فإنني لا أعرفه!”، أهو الشعر إذاً، ذاك العصيّ على التعريف، ولكن المدرَكُ بالحواس كعاطفةٍ منبثقة فوّارة؟ أم ليس مهماً أن نجد تعريفاً للشعر مادام يستمد وجوده، كينونته الأولى، أو بذرته الأولى من الشعور؟
هل يصحّ أن نقول “الشعر” معرّفاً، أم هي “جواهر” شعرية، فيوضات شعرية، انبثاقاتٌ تكسِرُ قشرةَ بيضةِ الكون وتولد من الغيب؟
“الشعر حرفةٌ في غاية الغموض، إنه مهمةٌ ولغز، تمضيةُ وقتٍ وسرٌّ مقدّس، صنعةٌ وعشق”… هكذا يعرّفه الشاعر والكاتب أوكتافيو باث، لكنْ إن كان السؤال عن جوهر الشعر ممكناً أو جائزاً، ألا يسحب وراءه سؤالاً عن: من هو الشاعر؟
الشاعر؟! وكأنها كلمةٌ تحمل صورةً مرعبةً بقدر ما هي غريبة وخرافية، وكأننا أمام كائنٍ مسخٍ، وحشٍ بشري بقرون استشعارٍ حسّاسة هي أصابعه، أقلامه، عيونه… لكنه كوحشِ الأميرةِ الجميلةِ في قصص الأطفال، ذاك (الوحش) الشفافُ، الرقيقُ، الحزين، المتألم، الشفوق، السخيُّ الدمعِ لرؤية الجمال مجسّداً في جميلته الحسناء!
وإن تساءلنا عن معنى الشعر، ومَن هو الشاعر ألا يستتبع ذلك منطقياً السؤال عن: من هم قرّاء الشعر؟ ألا ينطوي السؤال على تلميحٍ بأن قرّاء الشعر هم أصحاب الذائقة ممن يتحسسون الشعر كعاطفة داخلية وإحساس بالجمال اللانهائي؟
يشير أوكتافيو باث في كتابه “الشعر ونهايات القرن” (ترجمة الشاعر الراحل ممدوح عدوان) إلى أن أحد الشعراء وهو (خوان رامون جيمينيز) وضعَ إهداءً في مقدمة كتابٍ له، كإجابة ساخرة عن سؤالٍ استفزازي ووجِهَ به، هو: “إهداءٌ إلى الأقلية الهائلة”، ويشرح “باث” مطولاً حكمة الإهداء وصوابه، بأنه (اقتبس منه بتصرّف): “سواءٌ كان قُرّاء الشعر كثرةٌ أم قِلةٌ، فإنهم لم يشكلوا أبداً أكثرية في المجتمع، ربما في فجر التاريخ أو في المجتمعات التي نسميها بدائية، حيث يجتمع الرجال والنساء على شكل جماعات شعرية، ليرووا قصص آلهة القبيلة وأسلافها غناءً وموسيقا تنسج علاقتهم بالأحياء والأموات الموجودين بينهم كجزء من القبيلة، و”حيث الشعر والدين والعلم والسحر والغناء والرقص أمر واحد شامل”.
وهكذا، حسب باث، لا يعود مهماً إن لم يقرأ الشعر أو الكتب سوى قلة من الناس “فالحفاظ على الذاكرة الجمعية من جماعة ما، ولتكن صغيرة، هو سجّل خلاص حقيقي للمجتمع بأسره، فبمعونة هذه السجلات تعبر الثقافاتُ والتقاليد بحارَ الزمن”.
ويقول ماركيز في مذكراته “عشت لأروي” وهو يقصّ علينا كيف هي تفاصيل الحياة الكولومبية في (بوغوتا) العاصمة الأدبية، المدينة التي يعيش فيها الشعراء: “مِن الصعب تصور إلى أي حدّ كانت الحياة تعاش، آنذاك، في ظل الشعر. لقد كان الِشعر شغفاً جنونياً، طريقة أخرى في الحياة، كرةً من لهب تتدحرج تلقائياً في كل الاتجاهات”.
ويكملُ حكاية الانتقادات والردود المتراشَقة بين أولئك الشعراء مستشهداً بجملة من مقالة نقدية للشاعر أدواردو كارانثا بعنوان “حالة شاعر واحد أحد”، فيقول: “وكانت النتيجة التي توصل إليها (أي الناقد إدواردو) هي سؤال وجهه إلى نفسه بالذات، وبقي في جوهره كإحدى قصائده الجيدة (إذا لم ينفع الشعر في تسريع دمي، في أن يفتح لي النوافذ فجأة على الغموض، في مساعدتي على اكتشاف العالم، في مرافقة هذا القلب المحزون في الوحدة وفي الحب، في الاحتفال وفي الكراهية، فما هي فائدة الشعر؟)”.
هكذا بالضبط يقتبس ماركيز السؤال نفسه ويرمينا به، لكنه لا يجيب، بل يختصر كل تلك المرحلة من حياة أُمّة بالجملة اللافتة: “لقد كان العالم للشعراء!”.
أما الشاعر محمود درويش “لاعبُ النرد” بأقدارِ قصائده والمعنوِنُ ديوانَه “الأخير” بـ ” لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي” وكأنه يريد أن يؤبّدَ الشعر، أن يجعله أزلياً، وأن يجعلَ ذاته، لشدّة وَلَعِها وتمثّلها للشعر، خالدةً إلى ما لا نهاية… محمود درويش “المهرول/ الصاعد/ النازل/ المولول/ الخفيف/ البطيء/ المتعثر/ الأخضر/ الأزرق/ المتعطش/ المتذكر/ المبصر/ المهلوس/ الهامس/ الصارخ/المجنون/ الضّال”، يقول في ديوانه “سرير الغريبة”:
“أيّ زمانٍ تريدين…أي زمان
لأصبحَ شاعره، هكذا كلما مضتِ امرأة في المساءِ إلى سرّها
وجدت شاعراً سائراً في هواجسها…
كلما غاصَ في نفسه شاعرٌ
وجدَ امرأةً تتعرى أمام قصيدته”.
لكن الشعر بقدر ما هو أزليٌّ، هو مسكونٌ بالتناقضات، بالأضداد، بروحِ المفارقات الساخرة حيناً، المؤلمة أحياناً أخرى، لذلك يسلّمُ الشاعر أدونيس بتلاشي “إرادة القدرة” عند بني البشر، ومعترفاً أمامنا بسرٍّ مؤلم، في قصيدته “منشور سرّي”:
“سنقول البساطة: في الكون شيءٌ يسمّى الحضور
وشيءٌ يسمّى الغيابْ
لم تلدنا سماءٌ… لم يلدنا ترابْ
إننا زبدٌ يتبخّرُ من نهر الكلمات
صدأٌ في السماء وأفلاكها صدأٌ في الحياة”!