ياسمينة رضا.. وتوليفة المسرح الذي يجسد الفن ويلتصق بالحياة
راوية زاهر
” فن” هكذا اختارت ياسمينة رضا عنواناً لنص مسرحيتها، ورضا من أصول إيرانية روسية مجرية، ومن أعمالها فنّ ١٩٩٤، وإله المجزرة.. قام بالترجمة الدكتور مازن المغربي.. الكتاب صادر عن وزارة الثقافة- الهيئة العامة السورية للكتاب.
نقف بداية مع التعريف بشخصيات المسرحية:
١-مارك: أحد الأصدقاء الثلاثة، شاب ذكي، وضعه جيد فهو مهندس طيران، ينتمي إلى أولئك المثقفين الجدد الذين لا يرضون بأن يكونوا في موقف مناهض للحداثة ويقفون منها موقفاً غير مفهوم.
٢- سيرج: شاب حقق نجاحاً فهو طبيب أمراض جلدية ويهوى الفن.
٣-إيفان: شاب، طيّبٌ، نقي وصديق مشترك لسيرج ومارك، على أبواب زواج مصلحة، شخصيته انهزامية ولديه مشاكل عائلية كثيرة، ودائماً في موقع الوسطية الفكرية بين مارك وسيرج وعليه تقع الوقائع.. فيما تنوعت الشخصيات الأخرى، كاثرين خطيبة إيفان، أمه، و(باولا) صديقة مارك التي أحدثت جدلاً درامياً بين الشخصيتين..
المكان: صالة في شقة مع ديكور ثابت، ولاشيء يتبدل سوى اللوحة الفنية المعروضة.. وهنا تبدأ أحداث العرض المسرحي بخلاف حاد بين سيرج ومارك، وسببه لوحة فنية باهظة الثمن لرسام يدعى أنتريوس
اشتراها سيرج بمئتي ألف فرنك مندهشاً بها ويرى فيها فكرة وشيئاً متعلقاً بالفن.. بينما يراها مارك قذارة ولا تستحق، وكلٌّ من الطرفين يراها من منظوره.
سيرج: يراها تحفة فنية تستحق الاقتناء، ووراء بياضها ألوانٌ وخطوطٌ وجمالٌ فنيّ خالص.. ومن خلال الحوار الحاد حول هذا الازدراء والكلمة التي استفزت سيرج في وصف اللوحة، وبرأيه مارك غير مؤهل ليطلق أحكاماً على أشياء لاعلاقة له بها وليس لديه أي دراية بقوانينها ومعارفها.
اللوحة: بطول متر وستين سنتمتراً وبعرض متر وعشرين، معلقة على أحد جدران شقة سيرج.. يراها مارك لوحة بيضاء ويستفز سيرج طوال الوقت في مشاهد درامية متتالية.. الحوار وهو الأساس الذي يقوم عليه أي نصّ أو عمل مسرحي اتصف بالحدّة المتصاعدة، ويدخل صديق ثالث وهو (إيفان) المثقل بهمومه على خط الحوار السّاخن محاولاً تهدئة الوضع وهذا ما لم يقبله الصديقان.. وقد اشتدت سخونة التشظي الفكري إلى لغة الحركة الهمجية، وهي الضرب بالأيدي، وينال إيفان المخلّص اللكمة المؤذية.. وما كان معروفاً عن مارك هو رؤيته المخالفة للأمور وقد كان يتقبلها صديقه (سيرج) ويراها تفرّداً لصاحبه.. ومارك يشعر دائماً بالقيمة والفخر لتقبل صديقه الدائم له.
وفجأة ينقلب المشهد، فيصبح مارك عدائياً ومستفزاً، وله نظرته للحداثة ونظرته غير المقبولة لأي تقدّم أو شخصيات لها وزنها.. تطورت الحوارية لتأخذ منحى آخر، إذ حاول سيرج أن يتبع بمشهدية خاصة نفس الأسلوب، فوصف صديقةَ مارك المدعوة ” باولا ” بأنها دميمة وخشنة من دون سحر وباردة، والسبب هو سلوكها في طرد دخان السجائر بإيماءة مزعجة. .
مارك : أهذا رأيك في باولا؟
سيرج: مارأيك؟
إيفان: لايمكن قول هذا عن باولا.
مارك أجبني.
سيرج: أرأيت؟ أرأيت؟ أثر هذا؟
مارك: هل ما قلته هو رأيك في باولا؟
سيرج: بل أكثر.
حوار فيه فرط توترٍ وارتفاع في منسوب الصّراع الدرامي.. وهذا ربما محاولة لإفهام مارك أنه يجب احترام الأشياء التي نحبها وعدم التطاول عليها لفظيّاً.
فكما لوحتي قذارة، فصديقتك القريبة خشنة،
وقد تبين من خلال سير المشاهد والحواريات المسرحية أن علاقة الصديقين صارت في مرحلة خطرة، وقضية اللوحة وباولا نتائج وليست أسباباً.
فقد تبين من خلال التمادي في التجريح الذي طال حتى إيفان المسالم، هي استخدام مارك لفظة (تفكيكية)
ضد سيرج.. وهو نمط فكري يتجاوز أطر التفكير العقلاني الغربي، وإشعار سيرج أنه يقول عن أشياء تافهة إنها مميزة.. يسود الصمت في المشهد الأخير بعد الكمِّ الهائل من الجلبة الناجمة عن الصراع الفكري المتفاقم، وفي نهاية المشهد سيطرت حالة من الذهول، أمام صديق لن يرضى أن يفقد صديقه من أجل لوحة مهما كان ثمنها.. طلب أقلام تخطيط من إيفان وناوله لمارك، وطلب بكل هدوء أن يضع مارك شيئاً على اللوحة.. رُسم مارك متزلجاً يعتمر قبعة، وسط صمت وذهول وهدوء تام،، يرتديان معاً ملابس الرسم وينظفان المكان في اختبار لصداقة عمرها خمسة عشر عاماً لينتهي المشهد الأخير بدموع إيفان متأثراً.
الضوء يعزل اللوحة..
مارك: تحت الغيوم البيض يهطل الثلج
لا نرى الغيوم البيض ولا نرى الثلج.
لا برودة ولا لمعان الأرض
وحيداً ينزلق المتزلج
الثلج يهطل
يهطل إلى أن يختفي الثلج في ثناياه.
صديقي سيرج، صديق قديم، اشترى لوحة، لوحة طولها قرابة متر وستين سنتمتراً وعرضها متر وعشرون تمثل رجلاً يعبر مساحة معينة ويختفي..
لغة باذخة وغاية في الدقة وقد ألبست المشاهد المسرحية ثوب الاتقان والبراعة، لتصير لوحة البياض هي لوحة اختبار، وما هي إلّا الصداقة التي تمنّى سيرج أن يراها مارك بكل ما تحمل من فكرة من دون أن تكون صريحة كما أوضحها له في نهاية المشهد.. الحوار كان في بعض المشاهد طويلاً، وقد حظي بوصف سردي طويل أيضاً في بعض النقاط، فوضعنا أمام حكائية مسرحية بديعة.