قل للمليحة
يُحكى كثيراً عن قصائد الأقدمين وأثرها في حياة الناس أقواماً وأفرداً؛ حكايات تكاد تُشبه وقائع أبطال الملاحم حيناً، أو تنوس بعذوبتها كحكايات ألف ليلةٍ وليلة حيناً آخر، وطالما خلدت قصائد في الزمن القديم قبائل أو شخصيات بفضائل أو قبائح مُعينة من خلال مديحٍ أو هجاء، وربما بيتٌ من الشعر كان يكفي لدق طبول حرب قد تستمر عقوداً طويلة.. غير أن أطرف القصائد تلك التي كانت بمثابة ترويج وإعلانات اقتصادية واجتماعية، بل إنّ الشعر –ربما- كان الأسبق ليكون أول حاملٍ للإعلان التجاري.
ومما يُحكى عن الأعشى الذي عُرف بصناجة العرب، وصُنف في الطبقات الأولى لشعراء ما قبل الإسلام؛ أنه في أحد أسفاره سمعت بقدومه امرأةٌ لديها ست بنات عازبات لم يطرق بابهن أحد لشدة فقرهنّ، فأقنعت زوجها باستضافته رغم تبرمه الكبير من هذه الضيافة الثقيلة، فانتظره الرجل على قارعة الطريق، ودعاه ليحل ضيفاً عنده، وقام بحلب شاته الوحيدة وذبحها فأطعمه وسقاه لثلاثة أيام؛ وكان مكافأة هذا الكرم رغم هول واقع الحال قصيدة من الأعشى جعلت شباب القبيلة يتدافعون، ويقفون بـ(الطابور) أمام خيمة الرجل لخطبة بناته، يقول مطلعها:
وَدِّع هُرَيرَةَ إِنَّ الرَكبَ مُرتَحِلُ
وَهَل تُطيقُ وَداعاً أَيُّها الرَجُلُ
غَرّاءُ فَرعاءُ مَصقولٌ عَوارِضُها
تَمشي الهُوَينا كَما يَمشي الوَجي الوَحِلُ
كَأَنَّ مِشيَتَها مِن بَيتِ جارَتِها
مَرُّ السَحابَةِ لا رَيثٌ وَلا عَجَلُ
أما أشهر القصائد إعلاناً تجارياً؛ فكانت قصيدة ربيعة بن عامر الملقب بالدارمي، التي قالها لترويج تجارة خُمر -جمع خمار- تاجرٍ عراقي الذي كان يبيعها لنساء بغداد، وقد نفدت كلها باستثناء الخُمر السود، فاشتكى كساد تجارته للدارمي، وكان الأخير قد اعتزل الشعر وتنسكَ ولزمَ المسجد، وبعد مساومات مع التاجر جاء الشاعر بمغنٍ يُلقي شعره:
قل للمليحة في الخمار الأسودِ
ماذا فعلتِ بناسكٍ مُتعبّد
قد كان شمّر للصلاة ثيابه
حتى خطرتِ له ببابِ المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه
لا تقتليه بحقِّ دين محمد
تلك القصيدة التي جعلت من ارتداء الخمار الأسود موضة نساء المدينة، ولا تزال تُغنى حتى اليوم لكن لترويج أمور أخرى غير الخُمر السود.. وهنا أتصوّر إن ما يُظن أنه قوة الترويج والدعاية التي كان حاملها الشعر، فذلك لأنه كان أشبه بوكالة الأنباء شبه الوحيدة عند العرب، وليس لأهمية القول الشعري بالضرورة.