بين “شهيق زفير”.. “كان معه مصاري وينوي الزواج”
راوية زاهر:
تنوعت نتاجات الكاتبة فاتن بركات بين أكثر من نوعٍ أدبي، غير أنّ تنويعاتها في الأدب الوجيز كانت هي البارزة، من دون أن تتخلي عن كتابة القصة القصيرة المُتعارف عليها، ومنذ فترة أصدرت بركات مجموعتها القصصية (شهيق زفير) عن دار بعل بدمشق، وبين دفتيها قدمت تنويعاتها القصصية بين القصة القصيرة، والقصة القصيرة جداً، واللافت في نتاج الكاتبة أسلوبها الذي يميلُ للتهكم والسخرية في الكثير من تفاصيله، وهو نهج قلما انتهجته الكاتبات .
ومن هذه المجموعة سأختار نصاً قصصياً من نوع ال(ق ق ج) لكي ألقي الضوء عليه عسى الجزء يُعطي الملامح العامة للكل..
(كان معه)
فجأة توفي جارنا المتصابي؛ النسوة قلن: يا حرام كان معه ضغط، سكري، بواسير، قولون، مثانة عصبية، عمى ألوان، فالج، صرع، قلب.. لتقاطعهن زوجته شامتة: (وكان معه مصاري، وينوي الزواج).
هكذا بكل هذا التكثيف الذي يحسم رواية سردت بركات قصتها القصيرة جداً، وإذا ما بدأنا بالعنوان (كان معه) كعتبة نصيّة مفتوحة، كأول ما يجب على القارئ تخطيه، والتي ستقوده بحدسية إلى نهاية ما، قد لا تكون متوقعة أبداً.. بدأت الكاتبة أحداث نصها بإيقاعٍ سريع، لشخصية ذكورية مُتصابية يدور حولها الحدث، وبحكائية مميزة لفت الشخصية.. استغرقت الكاتبة، لتحيل الحدث بتقنية الإيحاء إلى زوجة المتصابي، وببراعة توقفنا أمام هذه الشخصية من خلال سلوكها وردة فعلها تجاه الحدث الذي هدف إلى استبطان الوعي الداخلي والحدث النفسي للزوجة، إذ لا قيمة للحدث إلا من خلال كشفها عن هذا الوعي من خلال الصورة الخارجية المنفعلة التي ظهر فيها تفسيره آلياً ودراماتيكياً في ظاهره، لكنهُ قويٌّ في إيحائه.
حجز النص لنفسه مكاناً خاصاً في الأدب الوجيز للقصة القصيرة جداً، من خلال الحكائية الممتعة، وحجمها الصغير المائل إلى القصر في حدث متسع الرؤى ضيق العبارة.. أضف للتكثيف والإدهاش السحري الذي انتهى به النص وبراعة الكاتبة بانتقاء الأوصاف؛ والتي تجلى عملها في البحث عن القارئ من خلال لغة الإيجاز واستخدام لغة بسيطة موحية بسحر وتشويق.
وفي البحث عن المفارقة كأهم أركان ال(ق ق ج)؛ ففيها جرت الأحداث بشكلٍ عفوي لرجلٍ اختصرت الكاتبه أوصافه ب(المتصابي) على حساب أحداث أخرى هي المقصودة.. تبجحت النسوة بالتعريض عن أمراضه الكثيرة في حالة ادعاء لشفقتهن عليه.. وطبيعة الأمراض التي عرضت تميلُ في أغلبها إلى إظهار عجزه الجنسي ربما.. ما أثار حفيظة زوجته ل(رجلها المفضوح)، التي مالت في مكان ما إلى ردة فعل حملت الضربة القاضية، في (السر) الذي لا يعلمه سواها.. أما الحالة، فهي حالة الوعي في ذات المبدعة التي امتلكت قوة الرؤية ودقة الملاحظة، وتوزعت بين شخصيات الحدث، لتسترسل في مكانٍ ما ببراعة، عند عرضها للكم الهائل من أمراض الجار، ثم تنقلنا ببراعة أقوى إلى الحالة الشعورية التي اعترت الزوجة، التي سقطت في حالة صراع كان فيما مضى نقطة ضعف لامرأة مع زوج أراد الزواج بأخرى لتحولها الكاتبة في لحظة أخرى إلى قوة جبّارة تجعلها في حالة صد وإعادة هجوم على خصومها؛ شامتة، مُتجبرة.. حتى إنها بدت على هشاشة الوضع متعالية، فالتضاد هنا ولّد حيوية وجسّد التّعارض بين القوى البشرية والواقع، فظهرت نقائض الذات في جدلها مُعبرة عن التوتر النفسي الحاد لشخصية الزوجة.. فالحدث ليس لقطة توغل الكاتبة في تفصيل سرودها بل تتوخى إخماد الاحتمالات السائدة في بنية النص من أجل الوصول إلى الخاتمة، وذلك عبر تقاطع مخزون الذاكرة عند القارئ مع ما أرادت الكاتبة التمهيد له.. فيما الخاتمة كانت الهدف والغاية الأساسية من نص ال(ق ق ج)، وأهم عناصره؛ هي قفزة مباغتة من داخل النص إلى خارجه، تدخلك في غياهب الدهشة، وتُعيدُ ملء كل الفجوات والبياضات التي تركها النص خلفه في صراعٍ دراماتيكي للشخصية، يُحيلنا إلى التأويل والغموض الذي يحتمل أكثر من قراءة.. (معه مصاري، وينوي الزواج).. الحالة اجتماعية تنقلنا إلى عمق واقعٍ هش، رغم كلَّ ما سبق من سرد النسوة للأمراض، إلا أن المال؛ رسولٌ لا يُردُّ له مرسال.. كان بإمكان هذا المتصابي بماله أن يشتري ما لذَّ وطاب له، وما قد يسكت حشرجة تلك النسوة المدعيات، في تشفٍّ واضحٍ من زوجة وعت الواقع بدقة، وأرادت أن تخرس ألسنة تلك النسوة بنظرها، وأنها الأعلم بالحال.. تعانقت الأفكار والألفاظ وانصهرت في بوتقةٍ أدبية واحدة في انسجامٍ بين المعنى والمبنى لفكرةٍ جميلة مستوحاة من خيالٍ واسعٍ مسقطةً على الواقع، فالقصة تناولت مادتها من قلب المجتمع ونقدتها بطريقة بارعة.. فيما جاءت اللغة بسيطة سهلة، غائبة عن التعقيد، موحية، اعتمدت الكاتبة فيها على التكثيف والذهاب في اكتشاف طاقة المفردة.. وذلك من خلال بناء لغة صحيحة باستخدام ما ترمي إليه الألفاظ بجوهرها لا بظاهرها، وذلك بعمق المعنى وقصر التراكيب، ومن خلال تقنيات التضاد النفسي الذي ظهر جلياً عند الزوجة..
ارتقت القاصة باللغة مشكلةً كلمات يرتفع مستواها الدلالي، ومكنت المُتلقي من القبض على جوهر النص وأحدثت المتعة الفنية.. وجاء استخدام الرمز الذي حملته الأمراض، وقادتنا إلى التفكير بالحالة الجسدية، وما تلاها من قراءة واقعية اجتماعية تلك التي سبقت الخاتمة، ما بين واقعٍ وخيالٍ، سخرية وتهكم، دهشة ونهاية مفاجئة وصادمة.