الوجه الآخر للحقيقة ..  على هامش العدوان على غزة 

إدريس هاني:

جدلية الصّراع تعني اجتماع النقيضين على مطارح ومُتعلقات مختلفة، إن النقيضين لا يجتمعان حتى يتحلّلا معاً لصالح مركب جديد، وإن بقيا فهما على منحى اجتماع الأمر والنّهي عند الفقيه. الصراع جدل مفتوح، ولا يمكن قياسه بالتّكهّنات التي لا تتجاوز أرنبة الأنف في تشخيص الآماد البعيد منظورياً والقوانين الخفية. ستنبئكم الأيّام عن حقائق قد تصدم المولعين بعالم ما تحت قوانين الميكانيكا، غير أنّ من يقرأ قوانين الكّم، سيدرك بعضاً من تلك المؤشّرات.

دورة أخرى أو لنقل وصلة أخرى من المعارك دارت رحاها في غزّة وامتدت حتى بلغت نحو ما أخرى بفلسطين المحتلة، في عدوان غاشم واستعمال للقوة المفرطة ضدّ المدنيين وضد مواقع منظمات الكفاح الوطني، انتهت عبر وساطة مصرية مشهودة بوقف إطلاق النّار. ولا حدود للمفارقات؛ فالوساطة تعني أنّ مصر برسم مخرجات كامب ديفيد وبفعل التقادم اكتسبت سلطة الوساطة، باتت تلعب دور الوساطة كما طلبت منها دول عربية عديدة، هنا مفعول التّقادم ينتهي بمفارقة كذّاب كريت مرة أخرى: إن صدق كذب وإن كذب صدق؛ الوساطة محمودة، ولازمتها منكرة. لم ترتفع عقيرة المناضلين بالمراسلة، ولا وقفوا عند هذه الفذلكة، الوسيط كالوسط المنطقي تثبت به الكبرى للصغرى، التطبيع يوجد هنا، ترى من منح مصر سلطة الوساطة؟ إنّه التطبيع. ولكن التقادم ينتهي برسم تصنيف جديد بين الأنواع والأجناس.

هذه النكتة أريد بها وضع المعادلة في الضوء، وأقرأ بها عنتريات أولئك الذين لا يقرؤون الحقيقة من كلّ الجهات، وفجأة يتحوّلون إلى براغماتيين من دون اتفاق. ستكتشفون أنّ السياسات العربية تقوم على مبدأ التّقادم، وبأنّها أجبن من أن تقول: التطبيع ملّة واحدة، سواء المعلن منه والمبطن، الجاري فوق الطاولة أو تحتها، وحتى المناضلون بالمراسلة هم من حيث التصنيف وابتلاع طعم التقادم، هم مطبعون بالقوة ونوعاً ما بالفعل، إنّ النّضال ليس مسرحية مفتوحة على ركح المزاج، بل هو الجدّ لا الهزل. الفرق بيننا هو أنّنا نرفض كلّ أشكال التطبيع، ولا نمنح قيمة للعبة التّفاضل والامتياز فيما به الاشتراك. فالتطبيع هو التطبيع، والاختلاف مراتبي تشكّكي، وما بدأ خجولاً ينتهي إلى الإعلان هو مسار تكاملي.

حين تصبح المفارقة ثابتة في التحليل السياسي، ندرك أنّ غريزة التضليل وعرقُ العبودية الدّسّاس يجد له امتداداً في الوعي، ففي الهجاء المُفرط مكر لإخفاء التضليل، وأنّ الراديكالية المفتعلة تخفي الرغبة في ضرب أخماس في أسداس، مازلنا نتلكّأ في إرادة المعرفة والشجاعة من أجل الوجود، النّضال شُعبة تأبى التّدكين ومنطق المُتاجرة والكيل بمِكيالين والتّعنتُر بمِخيالين. نعم، إن كان ولا بدّ أن تحصي الفروق بين أنواع التطبيع، فإن بعضه لا يصل حد منع الرأي الآخر، ومنح صك احتكار التعبيرات المتواصلة لبعض رخويات النضال بالمراسلة، في لعبة تكاملية، وقد رأينا أن محتكري دكاكين الاحتجاج يجزؤون مصفوفة النضال، رأيناهم كيف شيطنوا سورية حد التآمر عليها.

تمت الهدنة بين المحتل والجهاد، وتم الإقرار بشروط الجهاد، وهذا عنوان نصر جديد، فلقد كانت بالفعل عدواناً سافراً، أيّاً كانت تفاصيلها، فهي جريمة في حقّ الفلسطينيين جميعاً، لأنّ الذي يقودها هو احتلال، والاحتلال مبدئياً هو إجرام، والضّحية مدنيون وفدائيون ومنظمات مقاومة، تلك منظمات تعكس إرادة شعب يخضع للاحتلال. هل نحن في حاجة إلى قاموس جديد؟!

حركة الجهاد وغيرها، ونحن لا نعرف إن كان هناك تنسيق أم لا، ولكن ما بات واضحاً، وكان واضحاً، أن الجهاد خاضت معركة من دون حليف حمساوي، بينما حين كانت غزة مستهدفة وحماس مستهدفة، كانت الجهاد حاضرة، يحتاج الأمر إلى توضيح لا إلى تأويل، الاحتلال نفسه عدّ نفسه نجح في المهمّة، حين فصل بين الفصيلين كما عبّر مسؤولوه، ولكن هذا في الوقت نفسه، انتصار للجهاد، لأنّها ظهرت كقوة في المعادلة، وبات واضحاً أنّ الجهاد ليست كما حاولوا تصويرها منذ سنوات، بأنّها قوة ثانوية، فالجهاد بدأت المقاومة المسلحة قبل حماس، وعلى هذا الأساس تشكّلت.

 

ساهم إعلام الإخوان في وضع التباسات كثيرة على الجهاد، الإخوان الذين يركبون اليوم موجة انتصار الجهاد، كانوا يعدّون قادة حركة الجهاد مجرد عملاء للصفويين ، أمّا في الثمانينيات، فكانوا يعدّونهم عملاء للمجوس، إخواننا أنفسهم الذين يلعبون على كلّ الحبال، ويلتفون على التاريخ الذي نحفظه جيداً بكل تفاصيله المؤلمة، سوف يركبون موجة الجهاد التي تحاشوها في إعلامهم المشبوه، لأنّ المقاومة لم تكن هي الهدف الأسمى، بل مصير الجماعة والسلطة وما لم يعد يخفى خلال العشرية الأخيرة من الغدر، الآن وقد انتصرت حركة الجهاد، وأظهرت أنها حركة مقاومة طليعية في فلسطين، حاربت من دون أن تشاركها حماس التي باتت تتحول إلى سلطة جديدة، وموازين النأي بالنّفس، وكأنّها دولة لها حسابات استراتيجية وليست حركة مقاومة، هذا الذي نتحدّث عنه قراءة الواقع لا التكهّنات، أتريدونها حرباً مفتوحة أم لا ؟ ماذا وراء غير الحرب المفتوحة سوى توازنات، فتفاهمات، فشروخ، ثم تطبيع، فحلّ الدولتين، وهو الحل الخدعة الذي تفاعله الإنكليز لنقل الملف إلى هيئة الأمم، بينما تجاوزه الاحتلال نفسه، وأصبح معزوفة لكل الأنظمة العربية.

اختارت الجهاد المقاومة ورفضت السلطة وأوسلو وكل حلول غير التحرير، وهذا المبدأ هو خيار الشعب الفلسطيني الذي ما زال يكافح الاحتلال، أمّا ما يروج من أنّ إيران تدعم الجهاد، فإيران تدعم الجميع، وهي تقدم ما ترفض الدول العربية أن تقدمه للفصائل المقاومة، وما عدا سورية لا توجد دولة عربية تقدم السلاح والذخيرة والصواريخ للمقاومة الفلسطينية، ومن لا يقدم للفصائل سلاحاً للمقاومة عليه أن يخرس(خالص)، ويعرف حجمه الطبيعي، لأنّ هاهنا النار لا تمزح، ولا صوت يعلو على صوت الرصاص، وأنّ الحرب ليست مزاداً علنياً.

هناك مقاومون يقاتلون في الميدان، وهناك شرفاء يدعمونهم مادياً ومعنوياً، وهناك ضجيج ودكاكين تدخل في منطق تجار الحروب. حين تصبح ألسنة السماسرة أطول من ألسنة النّار، فاقرأ على مصير الأمّة السّلام.

وأنتم ترون كيف أنّ الاحتلال أدرك القوة التي توجعه، وهو وحده يقدم الدليل على ذلك، ونحن كمراقبين كنا على وشك أن نشكّ في أن الجهاد قوة بالقدر الذي تصفه بياناتها، على الرغم من حذرنا الشديد من الإعلام المُضلل، لكن الاحتلال وخلال السنوات الأخيرة استهدف قادة ومواقع الجهاد، بدءاً بسورية ومكتب المزّة، ما يؤكد أنّ الجهاد ظلت وفيّة لسورية، والوفاء لسورية ليس وجهة نظر يجب تجاوزها بخفّة قلم، بل هي قصة مخطومة مرحولة، لأنها استهدفت اليد التي كانت ممدودة والحضن الذي وفّر الحماية. نعم، استهدف الاحتلال قادة الجهاد في مواقع مختلفة داخل الأراضي المحتلة وفي سورية كما سبق واستهدف مُؤسسها في مالطا، وهكذا دواليك.

في هذه المعركة انتصرت المقاومة، وعنوانها حركة الجهاد التي لم تأخذ حظّها في الإعلام الذي هيمن عليه الإخوان، وحتى وإن كان هذا شكلاً جديداً من الفخاخ لاختزال المقاومة في فصيل الجهاد، فمكر التاريخ له حساب آخر، أنّ الذين قدموا كلّ هذه التضحيات، يستحقون أن ينصفهم التّاريخ.

لا شكّ أيضاً أنّ هناك خُططاً لاختزال المقاومة في فصيل دون آخر، ولا شكّ في أنّ هناك عملاً جارياً لتفتيت الجبهة الفلسطينية الداخلية، وكل هذا يضع مسؤولية كبيرة على كاهل تلك الفصائل، بأن تتجاوز أجنداتها الأيديولوجية والتنظيمية الخاصة، وتجعل التحرير غاية مشتركة تشدّ عصب جبهة الكفاح الوطني. وعليه، فإذا لم تتدارك حماس هذه الثغرة، وتقدم بيانات وتوضيحات مقنعة للرأي العام، لتبديد مزاعم الاحتلال نفسه، فلن ينفع كل التأويلات التي تحاول إصلاح ما أفسده الدّهر.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار