أوس أحمد أسعد يُطيّر (سرب الكمنجات) في خمائل الدهشة
راوية زاهر:
(سرب كمنجات)؛ مجموعة شعرية للشاعر والناقد أوس أحمد أسعد- دمشق الصّادرة عن الهيئة العامّة السّورية للكتاب، ٢٠٢٢م.. وللشاعر الكثير من المجموعات الشعرية والكتابات النقدية، وله نافذة صباحية (بوح الكلام) كل ثلاثاء على أثير إذاعة سوريانا.
ويأتي (سرب كمنجات) خمائل الدهشة كعتبة العنوان الغارقة في الموسيقا والخيال، متمردة على اللغة المألوفة، ما منحها حيوية وجمالاً، وجعلنا نناظر بدهشة هذا السّرب المحلّق والذي لا يسعنا إلّا أن نتذكر من خلاله الطيور بجمهرتها في موسم الرحيل والهجرة، ليتبع بها الشاعر لفظة الكمنجات، ومفردها: (كمنجة)؛ هذه الآلة التي خلعت ثوب أنوثتها ليطلق عليها الجمهور الحديث اسم (الكمان).. وهذه الآلة أيضاً مرافقة للحزن؛ إذ قيل إنها آلة خرساء تذبحك بوقع عصاها على الأوتار بالذهاب والإياب.
مجموعة الشاعر (سرب الكمنجات)؛ تقعُ في إحدى عشرة بوابة، يجري المجاز بين سطورها جريان المياه في الساقية، منوعاً في حقوله المعجمية بين الطبيعة والحب والشهوة والوطن والشهداء وعويل النايات، وبين طعنات الورود ومآثر الأنوثة؛ موقظاً الفراشة من غفلة الانتباهة، منساباً بكل وثوب في شباك (بسمالخ) قريته، خاتماً مع ابنته (سوناتا) تلك المعزوفة بعمر الفجر.
(حيثُ تعبقُ
رائحةُ “الحمراء الطويلة”
ودخان “اللّف”؛
ستجدُ سوريّاً
بشوارب صدئة،
وعينين معشبتين
بالحزن..
ينتظركَ
أيها الغريب
ليتقاسم وإياكَ
تبغهُ
ورغيفهُ).
فعلى وقع هذه الترنيمة الحزينة، وغيرها برز ميلُ الشاعر إلى التركيز على حاسة الشّم، وكأنّ هذه الحاسة تمتلكُ ذاكرة تعيدُ برمجة الحبّ والوجع وآنات الغياب.
وقال أيضاً:
(منذ أوّل
دفقة عطر
من نبع الأنوثة؛
وأنا والرائحة
توءمان).
وكان للون حصته الكبرى في بحر هذا الإبداع المدهش، والحضور الأسمى، فاللون الأبيض، وقد رأيناه يتسلل بكل اندهاشته وعفته وطهره بين الحروف، (بياض الياسمين، كوة البياض، تلك البقعة في أعالي البياض.)، وهذا ما قاله عن بياض الشِّعر:
(دون كشفٍ أو مباغتةٍ؛
يبقى الشعرُ
مجرّد بياضٍ
قلق!).
عندما تكون القصيدة بألفاظها ودلالاتها ومجازها، وكمائن لغتها، والحالة الشعورية المرافقة للشاعر والمتلقي معاً هي بيت القصيد؛ يصبحُ للغة لونٌ، وللمعنى أجنحةٌ، فيغرقنا المبدع في المجاز، غارفاً من نبع المعنى، وقد تبيّن أن المجاز أفضل وسيلة بيانية تُهدي إليها الطبيعة لإيضاح المعنى، وقد أخرج المجاز بصوره واستعاراته وانزياحاته المعنى متصفاً بوصفاً حسيّاً يكادُ يعرضُ على عيان السامع.
(شوارب صدئة)، (عينان معشبتان)، (أقطف السهو من زهرته) خيال مجنّح.. (تجزُّ صوف اللغة)، (شيخوخة النهر)، (فم النبع، وخصر الريح، وشهقة السنبلة..). لغة باذخة ومثيرة للجمال والدهشة، كما برز استخدام الشاعر للطباق، هذه التقنية التي تولد ديناميكية، وحركية تناقضية تثيرُ ذهنَ المتلقي، وتُعبّرُ عن الحالة الشعورية المتوترة لنفسية الشاعر.
(يا لقوة الهشاشة؛
تملكين حياءً جريئاً).
كما برزت تقنية التضمين في بعض نصوص الوميض المدهش الذي عجّت به المجموعة من مثل:
(إلى أن “يستوي
الذين يعلمون
والذين لا يعلمون”
أيها الأصدقاء الجميلون
المترفون بالخسارات
والفجيعة
بصحبة
نصف الكأس الفارغ
أبداً).
وكذلك أعادنا الشاعر من خلال التناص إلى (فينوس) آلهة الجمال، وأنبيائنا يوسف ويونس وأيوب عليهم السلام، وطائر الفينيق وخروج السوري من تحت الرماد:
(أفرد لشهيدي (بسمالخ) يامن ويزن
قصيدتين عاليتي الدهشة).
استخدم الشاعر كذلك ألفاظاً محلية من بيئته من قبيل: (جمش، قرمة الحطب، عبّكِ..الخ)، وللخبر والإنشاء حضور واضح لينقل كلَّ حالاته الشعورية القابلة للتصديق منها وغير القابلة:
(متى تستفيق أيها التاريخ
من غيبوبتك الماكرة؟)؛ إنشاء نوعه استفهام.
(مازالت الفضيلة
ذئبة السهوب.)؛ خبر ابتدائي.
ولا يسعني في الختام؛ إلّا الوقوف على هذه الصورة المُحلقة في عالم الخيال الجميل الذي يسحرُ اللبَّ، ويُحيلنا إلى عوالم أخرى من الوجود:
(كما لو أنكَ
تهشّ وعلَ البهاء
بنرجسة).