علي السقا في (باب الصّخر) : لولا الحلم لمات الناس!
مهدي زلزلي
تظنّ أنَّ ثنائيّات كـ”الحياة والموت” و”الحبّ والحرب” قد استُنزِفَت روائيّاً بما يكفي حتى لم يعد فيها مطمع لكاتب أو مطمح لقارئ يبحثان عن جديد، فيأتي علي السقا في روايته “باب الصّخر” ليثبت لك العكس، مقدّماً مقترحاً سرديّاً لا يخلو من الجدّة لقضيّة قديمة هي الحبّ إذ يجمع شخصَين من ديانتَين مختلفتَين فيكون سبباً في الحرب!
في الرواية الصادرة عن دار الفارابي في بيروت، والواقعة في 196 صفحة من القطع المتوسّط، وهي الثانية لعلي السقا بعد “حيّ السريان”، يقدّم لنا الكاتب مجموعة شخصيَّات رسمها بإتقان لتؤدّي دورها على مسرح “باب الصّخر” لعل أبرزها صفوان الذي فتح بمعوله في الصّخر الميت باباً على الحياة وبثَّ الروح في الأرض اليباب، وآوى في جنّته غرباء الأرض الذين عصوا الزمن فلفظهم وتركهم يهيمون تائهين كطيور مسملة العيون، وأنجاهم من ميتةٍ في دروب التيه تشبه نفوق الدواب يخفي فيها العشب عظامهم قبل أن تمضغهم الأرض على مهل، فكيف كافأه هؤلاء؟..
تعدد الرواة وغنى الحكاية بالأحداث المفصليَّة لا يسمحان للقارئ بفرصة لالتقاط الأنفاس، تؤازرهما في ذلك لغةٌ متينةٌ لعلها نادرةٌ عند الكتّاب الشباب في العصر الحديث، وحبكةٌ شائقةٌ أجاد الكاتب صنعها محتفظاً بخيوطها مؤجّلاً الكشف عن بعضها إلى الوقت المناسب وعلى لسان الراوي الذي يختاره لهذه المهمّة دون غيره، مستغلاً الطابع الفانتازي للرواية ليجعل الحياة والموت بطلَين من أبطالها، وشاهدَين على أحداثها، وراويَين يستأثران بمساحة كبيرة من السرد لا تقطعها إلّا حواراتهما التي تتسلل عبرها أغلب الرسائل التي أراد لها الكاتب أن تصل إلى قارئه بعيداً عن الخطابة والإنشاء والوعظ والتلقين. ويبرّر الكاتب علم الراوي بما ليس يُفترض أن يُحيط به علمه بأنَّ أحدهم حكى له ذلك سابقاً (كما في حالة الطفل رضا ووالدته فاطمة)، وفي مكان آخر يمكن أن تسخر الشخصيّة من الحكمة التي “هبطت بين يديها فجأةً ” لتبرّر ورود عبارة على لسانها أكثر بلاغة من مستواها المفترض.
وعلى أهميَّة “باب الصّخر” في البناء السردي كمسرحٍ لمعظم أحداث الرواية، فهي ليست الفضاء المكاني الوحيد الذي يدور فيه الصراع، هي جنة صفوان الموعودة التي خلقها الحبّ وأماتها غيابه بعد حين، وقبلها كانت “كفر اليمام” التي منها أتى أيوب وكريمة عاشقَين منبوذَين إلى قرية “الشيخ راشد” حيث صنع لهما صفوان منزلاً بجوار منزله سمّاه “دارة الحبّ” وآواهما فيه خلافاً لرغبة أبناء قريته، وحين همَّ أيوب بقتل ما طرحته زوجته لكونه مولودة أنثى لم يكن أمام صفوان لحماية الوليدة فاطمة وأمها سوى قتل أيوب، والارتحال بهم إلى جوار قرية “الحوارة” حيث سيصنع وسط وادٍ صخريّ دارةً تتسع لعدد أكبر من المحبّين المنبوذين، ليدفع ثمن ما فعله بأيوب حرماناً اختياريّاً من كريمة التي أحبّها بصدق وعاش عمره كاملاً قريباً منها صائماً عن فتنتها، فهو لم يقتل أيوب ليستأثر لنفسه بزوجته، قبل أن يدفع بعد حين حياته نفسها ثمناً لعطاء مماثل. هو الموتُ حبّاً في الحياة، الموتُ حين يصبح ضرورةً ومعبراً إلزاميّاً إلى حياة كريمة، ونعرفه جيّداً في هذه البقعة من الأرض على تخوم فلسطين: بذل النفس وقتل المعتدي للحفاظ على حيَوات من نحبّهم.
الحياة ليست ورديَّة دائماً، أو هي لا تملك الزمام بمفردها بل ينازعها عليه الموت فيغلبها وتغلبه، هكذا يشبّ حبّ فاطمة ابنة كريمة في قلب بولس كاهن رعية الحوارة ونجل زعيمها الخواجة صموئيل البدوي الذي لم يرَ في رتبة ابنه الدينيَّة أكثر من حجر يثبّت به كرسي سلطان العائلة إلى الأبد، وإذ يشهر بولس إسلامه نزولاً عند رغبة صفوان الذي أراد حماية الحبيبَين من القيل والقال، يهتزّ هذا الكرسيّ وترتفع مشاعل الغضب والثأر في الحوارة، مشاعل ظنَّت كريمة أنَّ بإمكانها إطفاءها بتضحية غير مسبوقة منها ولكنها زادتها اضطراماً حتى قضت النيران على الجنة الوليدة في “باب الصّخر”. وهكذا يتمخّض زواج بولس وفاطمة عن افتراقٍ سريع وطفلٍ كسيحٍ برأسٍ كبير وجسمٍ صغير اسمُه “رضا”، ويرجع بولس “تائباً” إلى كنيسته ورعيّته وعلى يده دم رجلٍ فتح له قلبه وذراعيه وبارك زواجه، وتعود “باب الصّخر” خراباً بعد أن اقتلع الحقد أهلها فغادرها من بقي منهم حيّاً في ارتحال جماعي. هذه المآلات المأسَاويَّة الناضحة بالدلالات والإسقاطات، وعلى سوداويّتها وسخريتها الفاقعة من تجاربنا الناقصة التي لم تغادر السَّطح ولم تتجاوز “الكليشيهات”، ليست سوى دعوة من الكاتب إلى محاولات أخرى أكثر جدية، محاولات حقيقيَّة قابلة للنجاح تستند إلى عقلٍ واعٍ ومدركٍ تماماً لما فيه مصلحة أهل هذا الشرق على اختلاف دياناتهم، وإلى قلب محبّ بصدق لا مجرّد عاطفة طارئة كالتي ألمّت بقلب بولس حين سمع صوت غناء فاطمة في موسم قطاف الزيتون فحملته إلى “باب الصّخر” قبل أن تنقضها عاطفةٌ طارئةٌ أخرى إثر موت والده فتحمله إلى الحوارة قاتلاً بحجّة الثأر!
هل لنا أن نحلم بشيء كهذا؟ “لولا الحلم لماتَ الناس” يقول لنا علي السقا على لسان إحدى شخصيَّات “باب الصّخر”! فلنحلم إذاً..