“الحنين إلى الممكن”… وكائنات “بيسوا” المستعارة!
جواد ديوب:
يلاحق الكاتب الإيطالي “أنطونيو تابوكي” (وهو كاتبٌ وأكاديمي محاضر في اللغة والآداب في جامعة سيينا بإيطاليا) الكاتبَ البرتغالي “فرناندو بيسوا” مثلما كان الخادمُ “سانشو” يلاحق سيّدَه ومعلمَه “دون كيشوت”.
إذ إنه منذ قرأ أحد نصوص بيسوا حتى افتتن به وصار مهووساً بهوىً برتغاليّ يجذبه إلى كل ما يصدر عنه من كتب أو عبارات أو كلام، لأن تابوكي يحسب أنه ما مِن كاتبٍ “عبّر عن دخيلة الإنسان المعاصر” كما فعل بيسوا منذ بديات القرن العشرين، أي عبّر عن تلك العلاقة التي تربط الإنسان بالزمن، “ذاك الانشداد النوستالجيّ ليس إلى ما مضى، بل إلى ما هو ماثلٌ في اللحظة الحاضرة، فالحاضر ليس سوى ماضٍ مؤجل”.
يشرح تابوكي مقصدَ قول بيسوا “الحياةُ كتاب، الإنسانُ كتاب، الكونُ كتاب” بأن الكتابة كانت بالنسبة لهذا الأخير هي “الإحساس بكل شيء بكل طريقة، أن تكونَ كلّ الناس في كل مكان، فالكتابة هي امتلاك أكثر من وجود، أكثر من حياة، والركون إلى غيريّة مسعورة وتعدديّةٍ لانهائية، كما لو أن الكون مصنوع من الكتابة”!
ويضيف محاولاً تبيان أهمية ما وراء نصوص بيسوا بأنها تتقصى موضوعات كونية (أي صالحة للجميع في كل مكان) مثل الشعور بعبثية الحياة، الحنين، الإحساس بغموض الحياة… وأن طريقة بيسوا الفريدة كانت في “الركون إلى الأدب لحلّ مشكلة تعدد الصوت للروح البشرية”! راجعاً بنا إلى كلام بيسوا عن طفولته: “هذا الميل إلى إحاطةِ نفسي بعالم آخر موازٍ لهذ العالم، لكن يسكنه أناس آخرون، لم يبرح خيالي قط… كانت تأتيني فكرة غريبة عمّن أكون أو مَن أعتقد أنني أكون، كنت أقول: إنه واحد من أصدقائي واختار له اسماً وأنشئُ له تاريخاً وعلى الفور أراه ينتصب أمامي بهيئته، ووجهه، قامته، ملابسه، وملامحه”.
يعلّق تابوكي على هذه الشخصيات التي اخترعها بيسوا كما لو أنها بشرٌ حقيقيون: “الاستعاراتُ الاسميّة ليست مجرد أنا أخرى، الغيريّةُ التي يحملها بيسوا داخله شأن الناس جميعاً تتجسد على نحو قوي وقاطع في هذه “الأَنَوَات” إلى درجة أنها تتمتع باستقلالية مطلقة…أي شخصيات مستقلة تعيش خارج نطاق مؤلفها”.
وهكذا اخترع/خلق بيسوا كائناته أو أكثر شخصياته استقلاليةً عنه: ريكاردو رييس، ألبيرتو كاييرو، وألفارو دي كامبوس… ومن أجل شرح المسافة التي تقوم بينه وبين أسمائه المستعارة يقول: “إنّ كامبوس ورييس ليسا أنا بقدر ما إن هاملت والملك لير ليسا شكسبير، لكن مشاعر كامبوس وريّيس ليست مشاعرَ بيسوا مثلما أن مشاعر هاملت والملك لير ليست مشاعر شكسبير… غير أن هذه المشاعر التي تنتابها هي مشاعر “حقيقية” أي إنها تنتمي إلى حقيقة رمزية، أي تمتلك حقيقة كونية”، ويلخّص بيسوا هذا الوضع التخيّلي/الواقعي بقصيدة يدرك القارئ من خلالها معنى العاطفة الكامنة التي تتدفق بقوّةِ تدفّقِ الأشياء عبر المخيلة… جاء فيها:
“التصنّعُ هو لبُّ الشاعر
لأنه يتصنّعُ بشكلٍ متقن
بحيث يتحول التصنع إلى ألم
الألم الذي يهرب منه حقاً…
وأولئك الذين يقرؤون هذه الكلمات
يشعرون بهذا الألم(…) وهكذا على هذه السكك الدائرية
يدور هذا القطار الصغير ذو النوابض الذي يسحرُ اللُبَّ ويسمّونه القلب”!
ثم يصل بنا تابوكي في تشريحه التفصيلي والدقيق لأعمال بيسوا إلى فكرة “الحنين إلى الممكن” فيقول: “يتعلق الحنين إذاً بفكرة أولية تحملها في دواخلنا: الحياة لا تتكرر أبداً، كل اللحظات، كل الأعمال، كل التصرفات باختصار كل ما يجعلنا نعيش، لا يحدث سوى مرة واحدة، ولن يتكرر أبداً”… ويربط بين هذه الفكرة الموجعة وبين شخصيات بيسوا التي تصطدم هي نفسُها بالفكرة ذاتها لأنها أي “الشخصيات المستعارة تعرفُ أكثر من أي مخلوق يعرف أنه زائل، أنّ حياتها هشّة… حياتها قائمة على الخيال ودمها هو حبر، حياتها تمضي على الورق ولا يتطلب الأمر أكثر من نقطة أو فاصلة كي تغلق فمها”، ويستخلص تابوكي من ذلك:
“والحال أن شخصيات بيسوا، التي تمارس الكتابة (بدورها) تكتب وتعيش بالضبط لأنها تكتب، فهي لا تعيش إلا في الحاضر، أي في زمن الكتابة (لهذا) تحمل في داخلها هذا الحنين المتناقض: الحنين إلى الحاضر”!
يتضمن هذا الكتاب الصادر عن دار نينوى بترجمة من نزار آغري، تكثيفاً مدوّخاً لأفكار بيسوا وشخصياته وبعض قصائده، بل قصائد كائناته التي استعارها ليقول عبرها ما يريد… يتحدث عن “سنوات الجنون” في أمريكا… وعن تلك الآلة العجيبة “السيارة” ” هذ الشيء السائر وحده” (يجب ألا ننسى أنه عاش في بداية القرن العشرين حين شكّلت السيارات والقطارات إحدى ثيمات أدب تلك المرحلة)…ثم يغوص بنا تابوكي في شرح لـ “الكآبة/الميلانخوليا” التي أصابت إنسان ذلك الزمن وجسدتها كائنات بيسوا بتفاصيلها وأغراضها مثل: الحقيبة والكرسي… كرمزين، أحدهما يشير إلى الارتحال، والثاني إلى فكرة الاسترخاء والتأمل و”السكون الأبديّ” الذي يتحدى “السرعة” الجوفاء للقرن العشرين.