التنوخي وفن الخبر والحكاية
راوية زاهر
(فن القص العربي القديم في “نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة”) للقاضي أبي علي المحسّن بن علي التنوخي (ت٤٨٣هجري )، بقلم واختيار القاص السوري ناظم مهنا؛ في محاولة لاستجلاء ثمرات العقول، وفي سابقة سردية يتلاقى فيها نثرنا العربي القديم والسرد الحديث في أبهى وأرقى صورة، وذلك في الكتاب المُصنف في أحد عشر مجلداً، فُقدَ بعضُها، وبعضها الآخر مبثوثٌ في الكثير من مكتبات الشرق والغرب.. وعلى عظمة الكتاب وتأثر كلُّ من وقع عليه نظره وعقله، لم يصلنا منه سوى شذرات وأجزاء متفرقة جمعها وحققها الأديب العراقي عبود الشالجي في كتابٍ صدر عن دار صادر في بيروت ١٩٧١-١٩٧٢م، وكان أهم ما يُميّز هذا المنجز الفريد العهد الذي قطعه التنوخي على نفسه ألا يضمّنه شيئاً نقله عن كتاب، “هذه الأخبار، جنس لم يسبق إلى كَتْبِهِ، وأنا إنما تلقطتها من الأفواه دون الأوراق “.
والكتاب الصادر للكاتب ناظم مهنا ضمن سلسلة (ثمرات العقول) عن الهيئة العامة السورية للكتاب، غير مبوّب، وقد حمل فكرتين أساسيتين؛ مقدمة: تتحدث عن أهمية كتاب ال”نشوار”، وتأثّر المستشرقين الغربيين والعرب به، وآرائهم الجليلة حوله، وخيوط التواصل التي تربط التنوخي بالجاحظ.
أما الفكرة الثانية فركزت على نقل الكاتب مهنّا مختارات رشيقة من صلب الكتاب، فيها الكثير من الجمال والمتعة والفائدة في سردٍ قصصي شائق، يعتمدُ على الإسناد من، عن، وإلى.. في محاولةٍ لفرض نوعٍ من المصداقية الفنية على الحكايات، ونلمحُ فيها الإيجاز اللغوي والتكثيف، ووحدة الأثر الفني إلى حدِّ التطابق مع نظريات السرد الحديثة.
وفي سطور عن أهمية كتاب “نشوار المحاضرة واخبار المذاكرة” أشار التنوخي في مقدمة كتابه إلى أنه قرر أن يُدوّن فيه “ما سمعه من الأصدقاء والأقرباء والمعارف، من القصص والحكايات، ليستفيد منها العاقل اللبيب، والفطن الأريب إذا طرقت سمعه، وخالطت فهمه.”، وتأتي أهمية الكتاب من شدة قربه من فنون القصة الحديثة في أحدث تجلياتها كما عند الكاتب الأرجنتيني (خورخي لويس بورخيس) الذي طالما كان له تأثيره الجلي في نتاج القاص ناظم مهنّا، وكذلك عند الكاتب الإيطالي (امبراتو إيكو).. فحكايات التنوخي وأخباره تُشكّلُ اختراقاً وتجاوزاً في الاقتراب من القص الحديث وما بعد الحديث، ومن هنا تأتي أهميته، ويظهر ذلك في الأسلوب الذي يقترب من اللغة الدارجة بين الناس من دون زخرفٍ لفظي أو محسناتٍ بديعية.. وهنا لا بأس أن نورد آراء بعض النقاد العرب والمستشرقين بكتاب (نشوار المحاضرة)، فهذا الناقد الأدبي المعروف فرانسيس جورج شتاينر صاحب تسمية (الجنس الفيثاغورثي)، وهو حصيلة للمزج بين الفكر والقصة، والقصة والشعر؛ يرى أن كتاب (نشوار المحاضرة)؛ يُعدُّ أول كتابٍ لدى العرب، وعى صاحبه صنيعه جيداً.. وقد أطلق الناقد السوري خلدون الشمعة على هذا الجنس تجاوزاً مصطلح الجنس الموسوعي على طراز (طوق الحمامة) لابن حزم الأندلسي، و(أخبار ابن دريد)، و(الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني، و(نشوار المحاضرة) للتنوخي، ويرى المستشرق الروسي – السوفييتي (فلشتينسكي)، أن التنوخي في ال”نشوار”) قدّم نوعاً خاصاً من الحكاية العربية، متميزاً للغاية من حيث طابعه، سواء عن النثر المزوّق للنخبة من أهل المعرفة أم الأدب الشعبي القائم على الأساس الفلكلوري التقليدي، كما شبّه الباحث الكتاب من حيث خطة تأليفه بكتب (الجاحظ العظيم)، ورأى أيضاً أننا حين نُطالع هذه القصص والحكايات والأخبار، نشعر كأننا حاضرون في المجلس الذي تدور فيه الأحاديث.. ذلك أن قوة المشهدية، والوصفية السردية، ودقة التصوير، والمقدرة على نقل الوقائعية، تمنحُ هذه الحكايات ديناميكية فعّالة، وتجعلُ تأثيراتها مُمتدة حتى العصر الحالي، وقد أورد الكاتب في هذه المختارات الكثير من القصص والحكايات المسندة بالتواتر، فيها المتعة والحكمة والعبرة وذات عناوين لافتة ومشوقة ومنها: “مُت عاشقاً، الجاحظ والصلاة، طفيليٌّ قديم، اشترى القتلَ لنفسه، الفرار من كلمة جميلة، متاهةُ لصوص، رجلُ المزابل، قصة في رغيف، الملّاحُ القاتل” وغيرها من القصص والأخبار التي تُثمرُ العقولَ وتُجلي الهمَّ عن القلوب.