نزيف لا يتوقف
لم يكن وقع رؤية أحد الأطباء من اختصاص أمراض الدم في مديرية صحة درعا وهو يخلص أوراق استقالته منذ عدة أيام محمولاً، بل صادماً يبعث الحنق والغصة في النفس، وخاصة أن هذا الطبيب المشهود له بمواظبته على عمله في مجمع عيادات درعا الشاملة وعلى الأكثر تجاه مرضى التلاسيميا وفقر الدم يعد الوحيد باختصاصه على مستوى المديرية، والسبب أنه حصل على عقد عمل في اليمن لتحسين دخله.
كان البعض يعتقد أن هجرة الكادر الطبي ستصل للذروة وتتوقف بعد موجة التسرب الكبيرة التي حدثت خلال الحرب، لكن الحالة السابقة وغيرها الكثير يدلل على أن الظاهرة لا تزال متواصلة، إذ تجد بين الحين والآخر أن ذاك الطبيب غادر وهذا يلملم أشياءه ويهم بالمغادرة.
المعضلة أن ما يحدث لا يترافق بتعويض أي من فاقد الكوادر الطبية، فالخريجون الجدد معظمهم بحكم الظروف الراهنة أرجلهم في ركاب السفر، فيما القدامى يعزفون عن التعاقد مع القطاع الصحي العام لضعف أجوره، وهذا ما أفقده اختصاصات نوعية متعددة انعكست بخسارة المرضى الفقراء للكثير من خدمات العمليات والمعاينات المجانية.
ما يزيد الطين بلّة أنه وبالرغم من وجود أطباء بأعداد مقبولة من اختصاصات محدودة فإن عملهم معطل والسبب عدم توافر المستلزمات، والمثال الأبرز هنا أطباء الأسنان حيث إنهم نتيجة غياب مادة التخدير والمواد السنية لم يعد لهم أي عمل في العيادات السنية المتواجدة بكثرة، كذلك نقص المواد المخبرية خفض تنفيذ التحاليل كما أن قلة بعض المستلزمات في المشافي بات مسوغاً للتملص من تنفيذ أغلب العمليات والذهاب بالمرضى للقطاع الخاص.
أمام هذا الواقع ينبغي قبول أكبر عدد ممكن من الطلاب في كليات الطب البشري وحتى قبول أعداد بمعدلات أقل من المفاضلة بشرط الالتزام بالعمل في القطاع الصحي العام بعد التخرج لفترة معقولة، وكذلك تأمين مستلزمات العمل كي لا تبقى مسوغاً لتحييد بعض الخدمات ودفع المرضى الفقراء مكرهين للقطاع الخاص، وقبل هذا وذاك ينبغي عدم استمرار تجاهل تحسين الرواتب والأجور ورفعها لتحقق كفاف العيش للأطباء وغيرهم، لأنه من دون ذلك لن يتوقف نزيف الكوادر وخاصةً النوعية منها ولن يحصل أي تعويض لها سواءً في القطاع الصحي أو في غيره من القطاعات الأخرى.