على جريِ العادة، واعتماداً على ذهنٍ مشبعٍ بمخزون كبير عن الروائيّ العالميّ، أشتري مجموعته القصصية التي نزلت حديثاً إلى المكتبات، كان ذلك منتصف تسعينيات القرن الماضي، وترافقني في حقيبة بسيطة من تلك التي تُوزّع في معارض الكتب حيث يكون التجوال بين الأجنحة لحيازة المطبوعات من دور النشر الضيفة على المعرض، ولا يخطر ببال القارئ أن يتفحص الكتاب ورقةً، ورقة، لأن دار النشر معروفة ومجرّبة، وهناك ثقة متبادلة بينها وبين “زبائنها”!
يأتي وقتُ قراءة المجموعة القصصية على غير إيقاع أوقات الحياة التقليدية، لأن القراءة لها أزمنتها التي يعرفها عشاقها، عدا ضرورة أن تكون مخصصةً لهدف عرض الكتاب في صحيفة أو وسيلة إعلامية أخرى، وأفتح المجموعة التي حظيت بغلافٍ لافتٍ بتناغمه مع العنوان، واسم المترجم الشهير بلغته الفذة وتوقيعه لأهم المؤلفات وأصعبها في علم النفس، ولا يتأخر الخذلان الذي أشعر به، ليس بسبب تجاهل دار النشر للفنان صاحب لوحة الغلاف وعدم ذكر اسمه، بل بسبب حروف الطباعة وقياسها متناهي الصّغر! الكلمات تموج في سطور، على العين أن تتابعها لتتبيّن كل حرفٍ فيها ولا تكفي “النظارة” التي غالباً ما تصبح جزءاً لا يتجزّأ من حواس وأعضاء القارئ لإكمال فقرة واحدة من الصفحة، ويبدو حلُّ استخدام المُجهِر هزلياً، لأن القارئ ليس باحثاً في الميكروبات والأحياء الدقيقة، ولا مكلّفاً بكشف النترونات في مادة مشعة، ولا طفلاً يراقب وكر نمالٍ نشيطة خرجت للبحث عن رزقها! وأيُّ نمال؟؟ كانت الحروف تشتبك في كلمات كأنها “ذرّ” من أبناء النمل فاعَ بعد سكْبِ ماءٍ على مخبئه فراح يغلي تحت البصر ولم يعد فيه أي تمايز بين الرؤوس والأطراف، وفي فقدان الحروف لحدودها المشبعة بالمدّ وحركات الحياة بات طيُّ الصفحات وإغلاقُها هو الحلَّ المتاح مع حسرة السؤال: -لمَ اعتمد الناشر هذا الحرف الذي يكتبه عادةً فنانُ الكتابة على حبّات الرز ليدهشَ السائح؟ لتوفير الورق؟ لتصغير حجم الكتاب، الذي جعله الناشرون بثلاثة أحجام: كبير ومتوسط وصغير ولم يبقَ إلّا قياس “الميكرو كتاب”؟ مع إن “كتاب الجيب” نفسه لم يتعرض لمثل هذا الاستخفاف بالحرف والإخراج، حسب النُّسخ التي وصلت إلى يدي بين وقت وآخر!
عدت إلى هذه المجموعة بعد عقود من الزمن وقد فاتني أن أجدّدها من دار نشر أخرى، ربما إعجاباً بالمترجم هذه المرة، وليس بالكاتب وحده، لكنني استعدت معها عسرَ القراءة ومؤسف أن هؤلاء “الصنايعية” لا أحد يحاسبهم على سوء ما صنعوا، ومؤسف أكثر أنني لم أتحادث مع “رفاق” القراءة عن هذه الطبعة التي عزّ عليّ أن أضيفها إلى ركام ترحيل كل ما لم يعد صالحاً للاستعمال رغم عيبها الكبير الذي يصعب إصلاحه أو تلافيه!