اللحن السوري ومتطلبات النهضة الفنية في الأغنية المحلية
بارعة جمعة:
كثيرةٌ هي المحاولات للتجديد في الأنغام والألحان الموسيقيَّة، إلا أنه مازالت هناك أنماط مختلفة من الألحان تروي تجارب حضاراتٍ مختلفة مرَّت على شعوبٍ عدة، ترجمت من خلالها مساحاتٍ زمنيَّة متنوعة بين الفلكلور القديم واللون الشعبي المعاصر الممتزج بلغاتٍ وأساليب متنوعة و معاصرة، باتت عنوان المرحلة الفنيَّة الحاليَّة .
تلاقي الثقافات
“الجوبي، الجولاقية”، فنونٌ شعبيةٌ مصدرها الأصلي “العراق”، انتقلت بفعل التأثر إلى العديد من المحافظات السورية، حاملةً معها نوعاً من الجدال بين الأحبة، والتنقل بين تراث محافظتي “الرقة ودير الزور”، ويندرج تحت مسمى التراث اللامادي، الذي يعكس طقوس مجتمعٍ حيٍّ وحاضنٍ للذاكرة الشعبيَّة امتازت به منطقة الجزيرة العربية السورية بألوان عدَّة منها “المواويل والغناء الخاص بكل حالة نفسية متنقلة بين الحزن والفرح والحب والحنين”.
وإذا ما ذهبنا إلى اللون “الفراتي” المختص بجماليَّات الكلمة والصورة المرافقة لها والمعنى الشاعري الجميل، نجد أن هناك تميُّزاً له بنوعٍ محدد يسمى “النايل” وهو من أنواع “الموال” ويختلف بين عشيرة وأخرى.
جدليَّة القدود
كما مثَّلت أنواع الفنون المرتبطة بمكانٍ ما ارتباطاً وثيقاً بالأصول العائدة لها، فاتسمت بها وأخذت منها الاسم والنسب، كما دخلت موضع نقاشٍ بين بيئات عدة كما هي حال “القدود”، العائدة بالمعنى اللغوي لاقتطاع الكلام من الأغنية ومن ثم إلباسها كلمات أخرى، مع الحفاظ على الجملة الموسيقيَّة ذاتها من دون تغيير في اللحن، والتي انطلقت من مدينة “حمص” حسب روايات أهلها من المختصين في الفنون القديمة ممن نفوا صحة الرواية الحلبية بنسب القدود إليهم، لكون هذه الوثيقة غير معتمدة كوثيقة تاريخية، في وقتٍ كان روَّاد القدود على مستوى العالم هم من الفنانين الحلبيين أمثال “بكري الكردي، و”صباح فخري”، ممن خرجوا بها من البيوت إلى الزوايا الصوفيَّة ومنها إلى العالم، بينما بقيت القدود الحمصيَّة حبيسة المجالس في البيوت، والتي تعرضت للظلم إثر عدم نسب هذا الفن إلى شخصٍ معيَّن، لامتداده عبر آلاف السنين.
اختلاف الثقافات
كان للتباين في أفكار واهتمامات الأفراد خلال تطوُّرها عبر الزمن الدور الأكبر في ضعف الاهتمام بمثل هذه الأنواع وتلاشيها في أماكن عدة، والذي يبرره طغيان مفهوم الحداثة التي شوَّهت أفكار الجمهور المتلقي لفن التراث بكل أنواعه برأي الباحث الموسيقي إدريس مراد، والذي بات واضحاً فيما يُقدم في تراث المنطقة الساحليَّة بطريقة فيها الكثير من الخطأ وبعيدة كل البعد عن حقيقته على حد تعبيره.. في حين لم يُتح المجال سابقاً للتراث السرياني الآشوري الأرمني والعربي الفراتي، الذي كان مغيَّباً حسب توصيف “مراد” مؤكداً أن محاولاته منذ عام ٢٠١٠م، لاتزال مستمرة للعمل على إنجاز شيء عملي في جانب التراث، التي كان أبرزها “فرقة التراث السوري للموسيقا” بالتعاون مع المايسترو نزيه الأسعد، في سبيل نشر ثقافة الأغنية السورية ضمن المحافظات.
إلا أن ما تفتقده الأغنية السورية اليوم، والذي يُعرقل عودتها بقوَّة هو اللحن الذي يمثل هويَّتها إلى جانب الدعم المادي، لصعوبة تقديم الأغنية بتقنيَّات فقيرة تحول دون وصول الألحان بصورة صحيحة إلى مسامع الحضور، وهو ما يفرض علينا تأمين ألحان وأدوات حديثة.
وما نلاحظه اليوم من تقنيَّة المزج بين الألحان التراثية هو سلوك خاطئ، ولا يخدم الأغنية برأي الباحث “مراد”، لخصوصية اللون التراثي الواحد في طرق تقديمه تبعاً للمنطقة التي يخرج منها، والذي يعود للغنى الثقافي، كما أن ظهور الفرق الحديثة وتقديمها التراث بهذه الطريقة المدعومة بقوَّة من الإعلام، يعدان تشويهاً للأغنية السورية بكل أنواعها.