مها سلطان
انفضَّ جَمْعُ «دافوس» على سؤال: هل العولمة في طريقها إلى انهيار حتمي، أم في طور التصحيح/التدوير؟.. بمعنى؛ هل الرأسمالية العالمية ستسمح بانهيار نظام العولمة أم إنها تعمل على تطوير عولمة جديدة (كما الليبرالية الجديدة) وفق قواعد جيوسياسية يفرضها «العالم الموازي»؟..والسؤال في طبيعة الحال مرتبط مباشرة بالولايات المتحدة وزعامتها العالمية.
** * ***
رغم أنه المنتدى الاقتصادي العالمي الأشهر، إلّا أن كلمة «عالمي» لا تعني أن دافوس هو منتدى لكل العالم حتى وإن كان يجمع أسياد المال والسلطة من مختلف الأنظمة الاقتصادية بما فيها تلك المعادية للرأسمالية ولنظام العولمة نفسه.. دافوس بالتعريف الرسمي هو وجه العولمة والمدافع الشرس عنها، هذه ثابتة لا تتغير، ولنلاحظ كيف أنه في اجتماعاته التي اختتمت أمس الأربعاء، انكفأ عن كونه ملتقى لأسياد المال والسلطة حول العالم، ليكون فقط ملتقى للعولمة وللمنضوين تحتها، موسعاً دائرة الصراع مع روسيا (والصين) باتجاه مواجهات عسكرية مباشرة في حال اقتضت «العولمة الجديدة» ذلك.
وعليه كان من المفهوم، والمتوقع طبعاً، أن تكون أوكرانيا العنوان الرئيس لاجتماعات دافوس، بل كانت العنوان الوحيد، ليُصار إلى توصيف العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا بأنها الخطر الداهم الذي يهدد بانهيار نظام القطب الواحد ومعه انهيار نظام العولمة، رغم أن كبار الاقتصاديين، من زعماء سياسة ومال، وبعضهم كان حاضراً في دافوس، عرض بإسهاب العوامل التي ستقود إلى انهيار العولمة، أياً تكن مآلات الحرب الأوكرانية.. هناك القومية، الحمائية، الوطنية، الشوفينية، وكراهية الأجانب والاستقطابات السياسية الحادة داخل البلد الواحد.. ثم جائحة كورونا وإجراءات الحظر والإغلاق التي أدت إلى انقطاع سلاسل التوريد واضطرابات كارثية في الأسواق حول العالم.. أيضاً هناك التوطين وإعادة التأميم والأقلمة وهو ما يسميه الاقتصاديون التفتت الجغرافي الذي يقود إلى التفتت الاقتصادي… وأخيراً تأتي الحرب الأوكرانية.
(ولنذكر هنا أن الولايات المتحدة نفسها تخلت عن العولمة واعتمدت الحمائية في إطار الحرب التجارية بينها وبين الصين.. بالمقابل الصين نفسها اعتمدت العولمة سلاحاً لمواجهة الولايات المتحدة ولكن ليس العولمة المتوحشة كما تفعل هذه الأخيرة.. وليست الصين وحدها من فعلت ذلك، هناك الكثير من القوى الصاعدة اعتمدت العولمة وحققت التوسع والانتشار على حساب الولايات المتحدة، بل هي طردتها من مواقع كثيرة، أي على مبدأ “داوِها بالتي كانت هي الداء”.. ومن هنا جاءت مسألة أن العولمة لم تعد «مناسبة» أو هي تحتاج إلى «تصحيح» وفق خطابات منتدى دافوس).
هنا، لا بدّ أن تخرج العولمة بوجهها السياسي، فتتقدم روسيا والصين باعتبارهما “الخطر الداهم ” الذي لا بدّ من ردعه قبل فوات الأوان.. ولكن هل الأوان لم يفت بعد؟
الحاضرون في دافوس أقرّوا بأن الحرب الأوكرانية أوصلت العالم إلى «نقطة تحول» لا مفر منها، لم يعد مفيداً الدفاع عن العولمة، التجارة بلا قيود وفكرة «العالم المسطح» لم تعد موجودة، الفصل القسري لروسيا عن الغرب، وعزل الصين، هما نهاية المطاف، لا يمكن بالمطلق التقليل من كون روسيا والصين في جبهة واحدة، هذه الجبهة ليست تجزئة للعالم حسب تعبير كلاوس شواب مؤسس منتدى دافوس بل تعيد صياغة العالم باتجاه عولمة مفيدة إذا جاز لنا التعبير، مفيدة للجميع وبما لا يغذي الصراعات والحروب.
شواب اعترف أن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية انتهى مع أول يوم من العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا في 24 شباط الماضي، ولا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.. ولا ينفع الاستمرار في التحريض على روسيا والصين.. على الرأسمالية البدء من جديد، فما هو الاتجاه الذي يمكن أن تتخذه؟
هذا السؤال كان حاضراً بقوة في دافوس، في الكواليس طبعاً وليس على المنابر.. وفي الكواليس نفسها لا نعتقد أن الحاضرين بحثوا في الأزمات الاقتصادية العالمية بقدر ما بحثوا في أزمة العولمة، وكيف يمكن إعادة العالم إلى حظيرتها.
الأهم والجديد في هذه المسألة هو أن «عالم المال والأعمال» بدأ يطرح سؤالاً مضاداً: هل إن عالم ما بعد العولمة هو عالم سيئ؟
حتى في الكواليس السياسية هذا السؤال مطروح.. الأوروبيون على سبيل المثال يطرحونه بصورة دائمة في الآونة الأخيرة من دون أن يستطيعوا التمييز هل سيكونون أفضل حالاً مع الولايات المتحدة (وعولمة جديدة/متوحشة) أم مع روسيا والصين (وعولمة مفيدة)؟ في الغرب بدؤوا يعترفون أن الجميع يتكيف مع كل واقع جديد في النظام العالمي، وهم يفعلون ذلك بطرق إبداعية، وبعضها يعزز النمو حول العالم، هناك القوى الصاعدة، والقوى الإقليمية، والتكتلات الاقتصادية الكبرى..
حتى الدول التي تتعرض للعقوبات الغربية استطاعت أن تتكيف معها وتتجاوزها بقوى محلية وإنتاج محلي وبعلاقات مع الجوار عززت بها مكانة إقليمية لا يُستهان بها.. الدول باتت تبني قوتها وفق قاعدة أساسية قوامها الوصول إلى المرحلة التي لا يمكن فيها لأي عقوبات أن تؤثر عليها، هذا ما فعلته روسيا والصين وإيران، هذه الدول طورت منظومة اقتصادية/مالية يمكن أن تكون لبنة أولى باتجاه نظام عالمي مالي متعدد الأقطاب لا يتأثر بزوال العولمة.
أيضاً.. هناك «الأسواق الناشئة» في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا التي تبني شبكات إنتاج إقليمية للسلع الأساسية، بما يؤدي في نهاية المطاف إلى إنشاء مسارات تجارية أكثر مرونة، ونماذج تطوير جديدة غير مرتبطة تماماً بتصدير البضائع الرخيصة إلى حفنة من الدول الغنية، عبر طرق النقل الطويلة التي أصبحت أكثر تكلفة ومتأثرة بالاضطرابات السياسية.
أيضاً.. «إذا كان بإمكان دولتين التجارة معاً، فسيكون كلاهما دائماً أكثر ثراء وأفضل حالاً» الأمر نفسه حيال التكتلات الاقتصادية الإقليمية.. وهكذا.
فعلياً هذا واقع قائم، ولأنه قائم فإن العالم سيتمكن من التكيف مع عالم ما بعد العولمة من دون كوارث كبرى تهدد بحرب عالمية ثالثة.
وعليه، فإن عالم ما بعد العولمة هو عالم مختلف تماماً (وليس سيئاً تماماً) أو كارثياً كما تروِّج الرأسمالية الأميركية وعملاؤها وأدواتها حول العالم.
الولايات المتحدة وحدها من تحتاج التكيف، ولأنها- كما يبدو- لا تمتلك أساسيات التكيف أو هي لم تهيئ له، تنطلق المخاوف من أنها لا بدّ ستجر العالم إلى حرب عالمية ثالثة.