التموضعات الدوليّة التي أفرزتها الأزمة الأوكرانية، جاءت واضحةً وسريعةً، وقد تكون حاسمةً، تحدد وترسم شكل العلاقات في المرحلة المقبلة التي ستنهض على أنقاض المرحلة الراهنة، وستحدد شكل النظام العالمي السياسي والاقتصادي والمالي على نحوٍ خاص، وكما تحدد شكل العالم بعد الحرب العالمية الثانية برعاية أمريكية، ستعاد صياغته الآن برعاية دولٍ مناهضة على الدوام للنسق الأمريكي، وما يجري الآن ما هو إلا تصحيح للأخطاء التاريخية، أما الفرص التي كان من الممكن اقتناصها لتصحيح الاعوجاج في النظام العالمي، وضاعت، فمن الممكن تعويضها اليوم.
ربما بعض التموضعات كانت واضحةً وبدهية كالعلاقة بين ضفتي الأطلسي التي لا يمكن فصلها في أيّ حال، ولا تتغيّر توجّهاتها السياسية، واختلاف المصالح وتنافرها، إن حصل، فهو إلى وقت محدود، وإظهار العديد من الدول الأوروبية بعض المرونة أو البراغماتية إنّ صحَّ القول أمر تقتضيه ضرورات المرحلة والمصلحة، بينما يمكن النظر إلى التموضعات الأخرى على أنها استغلال للفرص المتاحة حالياً والمتأتية من تراجع الهيمنة الأمريكية، وليس نهايتها، والبناء عليها للانعتاق من السطوة الأمريكية قدر الإمكان.
الهند مثلاً، التي كان يُنظر إليها على أنها حليف استراتيجي للولايات المتحدة، تعول عليها واشنطن، تقف اليوم إلى جانب روسيا، وإن بدا للبعض أن موقفها مازال حيادياً، وأعلنت قبولها التعامل بالعملات الوطنية في التبادلات التجارية مع روسيا وتجنبها الدولار، أضف إلى ذلك أنها لم توجّه أي انتقاد لروسيا على خلفية عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، ربما هي محاولة من نيودلهي لموازنة علاقاتها بين موسكو والغرب، إلى جانب أنها تريد أن يكون لها مكان في عالم متعدد الأقطاب.
وكذلك الأمر بالنسبة للعديد من الدول الخليجية التي كانت حتى الأمس القريب تأتمر بالأوامر الأمريكية، نراها اليوم تنحو باتجاه روسيا، ربما السبب هو قراءة للحدث المستقبلي، وربما هو ضرورات المصلحة، وقد يشمل الاثنين معاً، وقد يكون موقفاً حيادياً، أي محاولة لموازنة العلاقات أيضاً، لا مع واشنطن ولا مع روسيا، أقلّه إلى حين وضع الحرب أوزارها، لأن التوجّه النهائي للخروج من العباءة الأمريكية ليس وارداً ولا حتى ممكناً، وسيكلف ثمناً باهظاً في حال اتخذت الأمور مساراً مغايراً ومفاجئاً لما تسير عليه راهناً.
حتى تركيا التي طالما لعبت على المتناقضات في علاقاتها بين موسكو وواشنطن نجدها في الأزمة الأوكرانية تحسب خطواتها، وهي في كل الأحوال متذبذبة.
تلك المواقف وغيرها سواء أكانت واضحة أم لم تتضح بعد بشكلها الناجز، لا يمكن الاستهانة بها، وهي تدلّ على رغبة حقيقية في إعادة تشكيل منظومة دولية متوازنة تتسع للجميع، وتحقق مصالح الجميع بصرف النظر عن التوجّهات السياسية التي تبقى مختلفة بطبيعة الحال.
التكتلات الاقتصادية، التي كان يُحكى عنها مراراً منذ فترة ليست بالقليلة، ولاسيما في العقد الأخير، ربما تتبلور اليوم على نحوٍ سريع ولافت بفرض الأمر الواقع، لكنها لن تلغي التكتلات القائمة، إنما من شأنها أن تؤثر في دورها.
هبا علي أحمد
325 المشاركات