«كان يا ما كان .. شباك» إيقاعٌ على شدو الحمام
لم أكن بصدد تحرير هذه المقالة، حين قررت التجوال في منطقة باب شرقي طلباً للسكينة، أسراب من الحمام اصطادتني بشباكها مقتادة خطواتي لحي طالع الفضة, أيُّ اختلافٍ يعمُّ الأرجاء! فالزائر لا يقصد مكاناً محدداً مترعاً بأعمال تعلن عن ذاتها، بل يشعر أنّ نهراً يجرفه برويّة بين ضفافِ الإبداع، ليرسو مرة بعد المرة متأملاً اختلاجات روحه عبر الزمن! فكرة مبتكرة أطلقتها الدكتورة بثينة علي -أستاذة الرسم والتصوير في جامعة دمشق، بعد قرارها فتح مصنفها المكتظ بالأوراق والملفات القديمة الغافية منذ أحد عشر عاماً لتتبنى أحلاماً جديدة بالقول: “أحلام أكبر من حلمي بكثير، لتصير يداي ثلاثين يداً ترسم أحلام المدينة من أحلامهم”, في غاليري سامر قزح والأحياء المجاورة برعاية من وزارة الثقافة و تبنٍ من «سيرياتيل»، تكاتف خمسة عشر فناناً شاباً لعرض هواجسهم، مخاوفهم وأمنياتهم تحت عنوان «كان يا ما كان.. شباك», متبعين أسلوب فن التجهيز بالفراغ عبر أعمال فنية حيّة حلقت الحمائم بفكرتها الجوهرية..
رحيلٌ وفقدان
أهلّت أقفاص الفنانة أنوار الأخضر متدلية حولي حاملة أسراها، معلقة بمراياهم، بهواجسهم، لأقف وجهاً لوجه مع تناقضٍ عاشه قاطنوها مع واقعهم المرير! أقفاصٌ أخرى أحاطت بحمائمِ رنيم اللحام وحسن الماغوط في رحيلٍ مستحيل لأرواحٍ مكبلة بالماضي والحاضر والمستقبل!.
“ماذا أفقدتني الحرب؟” تساؤلٌ صدح عابراً أسماعي، تلفتُّ فإذا بالفنان بيير حاماتي جاثياً جوار أرجوحة هائلة تحلق بها الحمائم:”أتراني فقدتُ الحب، الرغبة،الإيمان ، الأمان، أم حاجاتنا؟ ليأتي جوابه متجسداً بأطباق! نعم الكثير من أطباقٍ فارغةٍ تحملها طيور راحلة! في مشهد مذهل من «العشاء السري»!
تناقضٌ أم اكتمال!
أبواب مغلقة يعد مقبضها بالكثير، أأفتح أحدها؟ طالعتني شابة بهية الابتسامة:” دعيني أساعدك بالتعرف إلى ذاتك؟ أتاني صوت وئام تعتع «المنسقة الإدارية للمعرض» تدعوني للدخول، حمائم الحب والسلام تطوف في الأرجاء بيضاء ناصعة مشرقة متشابهة، يتوسطها غراب كالح! “من أنا من أنت؟ من نحن؟” هكذا عبّرت دانا سلامة عن نبض الحياة! أيّ سكينة تحملها تلك الحجرة! “رؤية الأعمال بقلوبكم تعني لنا الكثير” ردت الفتاة بلطفٍ داعية إياي لدربٍ مظلم مترعٍ ببقايا الحمائم وشظايا أجسادها! ترددتُ بالدخول لكنها أصرتُ بالقول: “عليك سماع صوت خطواتك!” شعرتُ بأنني أسير فوق فتات أحلام ضائعة! مبدعة الفكرة آلاء حبوس، حرصت على إرفاق الخطوات بصوت الحطام! معلنة عن عملها بالقول:” حلمي حمامة بيضاء تطير في السماء، تحمل السلام.. تحولت إلى حطام! سأسير فوق حطامها لعليّ أستمر .
الاضطراب الذي خطا فوق الآمال، هدهده بيت هادئ معتم، عشُّ ربما، دخلتُ فإذا بالحمائم تهدل و اللحن خافت يشدو “يالله تنام يالله تنام لدبحلك طير الحمام” إنه بيت ليلاس الملا التي وجدت في البيوت عزلة واختناقاً: “إن طال النوم ولم تتجرأ على الطيران، بيتك نفسه سيخنقك، يسحقك، يلتهمك بالهدوء و الظلام”.
ماذا لو عكسنا الصورة كما أعلن مهند السريع عن عمله(كشة) “و رأينا ما يراه الحمام، هل سنسمع الضوضاء، هل سنرى الخراب؟ الحمام يحوم ويحوم، فهل ستأتي علامة السلام إلى هذه المدينة الفواحة برائحة الألم؟”
»عجز» جلنار الصريخي بفعل الخوف كما لو أن المرء طريدة صيد جائر. (دحض) لجوان شعبو حين لم تعد المفاهيم ثابتة بالعقد الجمعي، (في تلاشٍ مستمر) لحمود رضوان ومخاوفه عن المزيد من التلاشي، (رسالة) زينة تعتوع التي حملتها ثلاثمئة حمامة من دون جوازات سفر أو خريطة،(كاروسيل) لزينة طيارة عن روحٍ تسكن جسد حمامة، تطوف حول الدوامة و الموسيقا، (يوميات قذيفة هاون) لـكريم الخيّاط حيث الحياة تأبى إلا أن تتنفس برغم الانفجارو الأنقاض والضحايا،(القناة الثالثة) لمهند البيك حفيفٌ حريرٌ وزقزقة، وصوت تلفاز يبث أخباره بعشوائية، (أنا هنا) بألوان جمانة مرتضى الشفافة وطائرها الأبيض و نحن! غادرتُ و لم أغادر ذكريات أولئك المبدعين الشباب ومخاوفهم وأحلامهم و آمالهم المعلقة على أجنحة بيضاء تظلل حارات دمشق العتيقة.