كان الفندق بنجماته الثلاث يتبع لسلسلة فنادق عالمية على درجة عالية من الفخامة، وكان يقدم لنزلائه بطاقة دخول مجانية ليلتي الجمعة والسبت إلى “الديسكوتيك” في الطابق السفلي حيث يبدأ الحفل عادة من السابعة مساء حتى فجر اليوم التالي.
كان الشاب خالد الذي جاء من وهران في منتصف الثمانينيات، باحثاً عن الشهرة والمجد في عاصمة النور، قد غزا قلوب شبان وشابات جيل تلك الحقبة بموسيقا “الراي” الجزائرية وغدت أسطوانات ألبوماته تحتل المكانة الأولى في جميع “علب الليل” والمقاهي، والإذاعات المحلية وقنوات التلفزة بعد أن أزاح نجوماً كباراً عن عروشهم التي تربّعوا عليها إبان العقدين السابقين لفرض خالد نفسه على الساحة الفنية كملك لا ينازعه على عرشه أحد من نجوم موسيقا “الروك” كالمغني البلجيكي جوني هوليداي، أو كلود فرانسوا، أو الأمريكي مايكل جاكسون، أو “البيتلز” البريطانى ماكارتني.
لقد جعلهم خالد بابتسامته الآسرة وموسيقاه الفريدة بإيقاعها، ضرباً من الماضي، وطوى صفحة أولئك النجوم إلى غير رجعة.
حجزت غرفتي في الفندق وأخذت بطاقة الدخول إلى “الديسكو” وعدت أدراجي إلى المقهى حيث ينتظرني الكابتن سيرجيو، وينتظر أيضاً قراري بمرافقته صباح اليوم التالي إلى أمستردام.
في الواقع، كنت قد حسمت أمري بالبقاء طوال عطلة الأسبوع في المدينة، لقد استهوتني فكرة قضاء سهرة، لاشك في أنها ستكون ممتعة، في “ديسكو” الفندق على أنغام موسيقا “الراي” الوهرانية، ومن يدري ماذا يتبعها من مصادفات لطيفة مع نساء جميلات من سكان الحي في أجواء كهذه يسودها الفرح والرغبة في الانعتاق من ضغوط أيام الأسبوع، وهذا ما حصل.
استيقظت قبيل ظهيرة اليوم التالي، كانت واجهة الغرفة تطل من الطابق الرابع على ساحة “الانفاليد” المغطاة تماماً بالثلوج المتراكمة خلال الليل، فتحت النافذة قدر عشرة سنتمترات، فلفحتني نسمة باردة أغلقت على إثرها النافذة فوراً، وهممت بارتداء ملابسي، والتوجه نحو المنزل لأخذ بعض الحاجات والأوراق، والشروع بكتابة رسالة احتجاج بنبرة قوية لمدير عام شركة الكهرباء، وبينما كنت على وشك الخروج، رن جرس الهاتف فأتاني صوت الكابتن سيرجيو مصحوباً بضجيج محركات الطائرات ليبلغني قبل صعوده الطائرة أنني كنت محظوظاً لرفضي مرافقته، لاضطراره القيام برحلة مفاجئة بدلاً من زميله المتغيب بسبب وعكة صحية، وأنه سيتصل بي بعد شهر لنستكمل أحاديثنا التي كنا قد بدأناها في الأمس.
كانت الشوارع مغطاة بما يغمر الأقدام بالثلوج، وكانت حركة المارة ضئيلة، لكن المقاهي والمطاعم كانت تضج بالصخب والضحكات لأناس يحتفون ببهجة الحياة، بعد خمسة أيام من العمل المضني- من الصباح الباكر حتى السادسة مساء- دخلت أقرب مقهى طلباً للدفء والاستمتاع من وراء واجهة الزجاج بمنظر الحلة البيضاء التي تكسو كل شيء على مدِّ النظر، وشرعت بتدوين الأفكار الرئيسة لرسالة الاحتجاج التي سوف أرسلها صباح يوم الإثنين بالفاكس بمجرد وصولي إلى المكتب.
مضت عطلة الأسبوع بمتعة ربما أكثر مما كنت أتوقع أن أمضيها على التلفزيون وحيداً في بيتي الجديد، تعرفت خلالها على الكابتن سيرجيو الذي أصبح صديقاً حميماً لم ينقطع مرة واحدة عن زيارتي وقضاء أوقات ممتعة معاً كلما سنحت له الفرصة بالمجيء إلى باريس.
وصلت رسالتي صباح يوم الإثنين إلى مقصدها، وقبل انتهاء الدوام بلغني فاكس من مكتب مدير عام شركة الكهرباء، يعلمني بأنه أمر بوصل التيار الكهربائي فوراً لمنزلي، وفتح تحقيق بالشكوى، وإبلاغي النتيجة برسالة رسمية عبر البريد خلال يومين.
كانت الرسالة المذيلة بتوقيع المدير العام تنمُّ عن أدب وذوق رفيع. بدأها بالاعتذار عن الخطأ الفادح الذي حصل بسبب إهمال غير مقصود من الموظفة التي أدخلت البيانات التي كنت قد أرسلتها، في جهاز الكمبيوتر، لكنها نسيت تفعيل الأمر، وحصل ما قد حصل، واختتم رسالته راجياً أن اقبل الاعتذار أولاً ثم التعويض عن كل الأضرار المادية التي تكبدتها خلال عطلة الأسبوع من خلال تضمين رسالتي اللاحقة بفاتورة الفندق والمصاريف الأخرى فضلاً عن إعفائي من فاتورة الكهرباء، مهما عظم حجم الاستهلاك، لمدة شهرين متتاليين، وفي حال لم تكن هذه المقترحات منصفة، بوسعي أن الجأ إلى القضاء عبر محكمة البداية الأولى في شارع “كذا” لطلب تعويضات أكثر إنصافاً.
قرأت الرسالة المرة تلو الأخرى ، ثم دمدمت في سري: هل أنا في حلمٍ أم في علم؟