من عالمٍ مختلّ إلى عالمٍ متوازنٍ
من الساحة الأوكرانية، وفي أقصى الشرق الروسي، ترتسم خريطة العالم السياسية وكذلك الاقتصادية، وبات الحديث عن الأحادية القطبية وتداعيات الحرب العالمية الثانية من الماضي، كما أصبح الحديث عن عالم متعدد الأقطاب مرتقباً، لأنه تبلور بالفعل في أوكرانيا.
وإن كانت القوة الاقتصادية مرهونةً بالقوة العسكرية التي تفرّدت بها واشنطن عقوداً من الزمن، فإنّ هذا التفرّد ولّى مع بروز قوى تمتلك كل مقومات القوة، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، التي تمكنها من التفوق على الأمريكية أو موازاتها.
إن كانت واشنطن تريد عزل روسيا انطلاقاً من الساحة الأوكرانية وما يجري عليها، فهي فشلت، وعالم اليوم يسير على قاعدة لا عازل ولا معزول، أي بمعنى، لم ولن تستطيع واشنطن عزل موسكو، ولا يمكن عزل واشنطن عن الملعب الدولي في الواقعية السياسية، لكن الأهم من ذلك أن الركائز التي تقوم عليها واشنطن في هيمنتها وتسلّطها اهتزت أركانها، سواء الركائز السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية، فهي مجتمعة،ولايمكن فصل بعضها عن بعض، ومع اهتزاز هذه الأركان كان لابد من تبدّل شكل العالم والعلاقات الدولية والتموضعات في هذه العلاقات.
ربما يكون أحد أهم أشكال هذا التبدل اقتصادياً، إذ يشاهد العالم كيف يتحوّل الدولار من عملة صعبة ومتفرّدة إلى إحدى العملات في ظل ظهور عملات موازية تفرض نفسها كالروبل الروسي واليوان الصيني والقافلة تتقدم، فمثلاً في قضية الروبل والتوجّه الروسي إلى جعل المبادلات التجارية به واتباع آلية سداد ثمن الغاز الطبيعي المورد للدول غير الصديقة بما في ذلك الاتحاد الأوروبي بالروبل الروسي، في هذا الأنموذج، فإن الاعتراضات الغربية والبحث عن بدائل للطاقة الروسية إن كانت مُجدية فهي فقط على المستوى المتوسط لحين خفوت الفوضى المُثارة، لكن الدائرة ستعود من حيث انطلقت إلى روسيا وإلى الحاجة إليها، ومن الطبيعي ألا يظهر ذلك مباشرةً أو على نحوٍ صريح للتنازل، بل سنراه في أشكال مغايرة، من شاكلة دراسة شركة نفط لاتيفية إمكانية شراء النفط بالروبل الروسي برغم احتجاج دول البلطيق من بين المحتجين على الإجراءات الروسية، ومن شاكلة تحذير رئيس اتحاد الصناعات الكيميائية والدوائية السلوفاكي رومان كارلوبيك من أن التوقف الكامل والفوري للغاز والنفط الروسيين يعني حدوث انهيار اقتصادي في سلوفاكيا، وهذه نماذج بدائية.
قد يطرح أحدهم سؤالاً لماذا يمكن الوثوق بالروبل الروسي؟ وما يدعو لهذا الطرح هو تذكر الوثوق بالدولار الأمريكي بعد اتفاقية «بريتون وودز»، لكنها ثقة خاطئة، وهنا لامجال للمقارنة، لعدة أسباب، روسيا لاتسعى للهيمنة الاقتصادية ولا السياسية بل تسعى إلى عالم متوازن سياسياً واقتصادياً، يقوم على التعاون المتبادل ولاتسعى إلى إلغاء أحد الأطراف لمصلحة صعودها، بينما واشنطن كان الدولار أداة لهيمنتها إلى الآن، ثم إنها خذلت حتى من تحالفوا معها وقبلوا بالاتفاقية المذكورة، وبعدما كان هناك إمكانية لتحويل الدولار إلى ذهب، كما اتفق، أصدر الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عام 1973 بياناً ألغى فيه التزام بلاده بتحويل الدولارات إلى ذهب وهو ما عرف لاحقاً بـ«صدمة نيكسون»، ومن الضروري التذكير بخلفيات تلك الخطوة العائدة إلى حرب فيتنام، إذ احتاجت الولايات المتّحدة إلى المزيد من الدولارات لتغطية تكاليف الحرب، ولكن الدولارات لم تكفِ، لأن الذهب الموجود في الولايات المتحدة بل والعالم لم يعد كافياً ليغطّي الدولار الأمريكي، ولم يعد في الإمكان طباعة المزيد من الدولارات لأنّ الذهب الموجود لم يعد كافياً لتغطيتها، وتالياً قامت الولايات المتّحدة بتجاوز الحد الأعلى المسموح به من الدولارات المطبوعة، وقامت بطبع دولارات غير مغطاة بالذهب من دون أن تُعلِم أحداً بذلك.
من مراقبة ما يجري نجد أن خطوات إثارة الصراعات غير محسوبة التداعيات، وهذا ينطبق على حال أوروبا التي انجرّت وراء واشنطن في معاداتها لروسيا، والآن هي أحد الأطراف الخاسرة، في المقابل ومن مراقبة التطورات نجد أن خطوات المواجهة محسوبة، وإن واجهت خسائر لكنها تحاول الموازنة بين الربح والخسارة، فالقرار الروسي بتسعير الغاز بالروبل ينطلق من حرص روسيا على عدم خسارة الدولارات واليورو بسبب العقوبات الغربية.