أيُّها العمر، كيف مضيت ؟

لم أتخيل يوماً، في مرحلة ذروة الشباب، أن الحبَّ يمكن أن يترك جرحاً عميقاً لا يلتئم حتى بعد عدة عقود من الزمن.
قلت لصوفي ذات مساء ونحن على مشارف الضواحي الجنوبية لمدينة باريس، بعد أن قطعنا زهاء ثمانمئة كيلو متر، قادمين من أقصى جنوب البلاد، لزيارة معرض عن الخيول الأصيلة : ماالذي جعلكِ تعشقين هذه الكائنات الوديعة إلى هذه الدرجة، تقضين جلَّ وقتك برعايتها والقراءة عنها، التفتت نحوي وهمست: فيلم سينمائي إيرلندي شاهدته قبل نحو عشر سنوات عن فلاح يعيش مع زوجته وابنتهما في عمق الريف الإيرلندي، كان هذا الفلاح يعتني بجياده وكأنها أولاده، وكان من بين تلك الجياد مهرٌ عربيٌّ أصيل اقتناه من قبيلة بدو كانت تعيش متنقلة عبر الصحارى الممتدة بين بلدك سورية والأردن حسبما روي في الفيلم، وكان لذلك المهر البديع في جماله قصةً مختلفة عن بقية جياد الاسطبل، تشبه إلى حدٍّ بعيد ما رويته لي حين التقينا في أول مرة عن فرسك العربية الأصيلة التي أهداك إياها والدك بمناسبة نجاحك بالشهادة الإعدادية، لقد سحرتني قصتك آنذاك، وسوف أفعل الشيء نفسه حين سأحدثك عن ذلك المهر الذي سحرني أيضاً، ولكن دعني الآن أستمتع بأضواء هذه المدينة التي طالما حلمت برؤيتها منذ كنت طفلة.
كان ذلك عام 1987 حين التقيت مع صوفي للمرة الأولى في نادي رياضة “الايكيدو”، كنا في حلقة تدريب واحدة، لفتت انتباهي منذ اللحظة الأولى التي تقابلنا فيها على بساط التدريب، بقامتها الممشوقة وملامح وجهها الجميل الذي أوحى لي بقسمات شبه مع الممثلة الايطالية صوفيا لورين في ستينيات القرن الماضي، لهذا سألتها، ولم أكن أعرف اسمها بعد، حين دعانا المدرب في نهاية الدرس الأول إلى فنجان قهوة في أحد مقاهي المدينة، وشاءت المصادفة أن تجلس بجواري، إن كانت تدعى صوفي فهزت برأسها مستغربة وسألتني بفضول: كيف عرفت اسمي ولم ينادني به أحد خلال التدريب، وعندما رويت لها أنه مجرد حدْس، أطلقت ضحكة مجلجلة لفتت انتباه الجميع على الطاولة، ثم سألتني بغنج أنثوي: من أين أنت؟ مطت شفتيها ورفعت خصلات شعرها الكستناوي براحة كفها الى الخلف وقالت: لم أسمع ببلدك من قبل، لكنني سأبحث في مكتبة والدي الضخمة فور عودتي إلى المنزل، لابدَّ أن أجدَ فيها كتاباً أو أي شيء يخص بلدك البعيد.
كانت صوفي في السنة الأخيرة في قسم علم التواصل المجتمعي في كلية الآداب، حيث أعمل منذ سنة، وكان يسيراً أن نلتقي أكثر من مرة في الأسبوع خلال ساعة الغداء ظهراً في مقصف الكلية، وكانت تعيش مع أسرتها في قرية تبعد نحو ثلاثين كيلو متراً عن الجامعة.
ذات يوم، كنت انتظرها كالمعتاد على طاولة في مقصف الكلية لتناول وجبة غداء خفيفة، وكان قد مضى على تعارفنا أسبوعين، وصلت مستعجلة، وقالت، وهي تحتفظ بحقيبتها معلّقة على الكتف، هذه المرة سنأخذ «سندويتش» وماءً ونذهب من هنا، أريدك أن تذهب معي إلى مكان جميل أتوق لزيارته على شاطىء البحر القريب من هنا.
كان المطر مصحوباً برذاذ ثلجي ينهمر بغزارة في ذلك اليوم من شهر كانون أول، حين وصلنا بعد حوالي نصف ساعة إلى شاطىء صخري ليس بعيداً عن مدينة مرسيليا، أوقفت السيارة حيث لم يعد ممكناً التقدم أكثر.
ترجلنا من السيارة وشرعنا بصعود صخور عالية ومنها لأعلى، إلى أن وصلنا إلى ذروة تلك الصخور العاتية، التي تلطمها أمواج البحر المتوسط بلا هوادة منذ الأزل.
كانت الرياح تشتد أكثر فأكثر، وكان المطر ورذاذ الثلج قد بللا رأسينا وثيابنا، مسكت صوفي قبضة يدي اليسرى وألقت برأسها على كتفي ثم همست: هناك في الجهة المقابلة لنا، على الساحل الشرقي لهذا البحر، بعد خط الأفق، وبعد آلاف الكيلومترات، ثمة بلد جميل، قديم قِدَمَ التاريخ، اخترع ساكنوه أول أبجدية، وأول نوتة موسيقية، وأول رغيف خبز من حبة القمح، هناك شعب طيب كريم، متعدد الأعراق والديانات والمذاهب، لكنه متسامح ومسالم، يعيش أهله بوئام منقطع النظير فيما بينهم، استدارت قبالتي فجأة ثم همست: ضمني الآن إلى صدرك، كما كنت تضم فرسك ” الحمدانية” من عنقها.
سألتها بخبث: كيف عرفت كلَّ هذه الأمور عن سورية وأنا لم أحدثك عنها من قبل ؟ رفعت رأسها ونأت قليلاً عني وقالت بدلع : مجرد حدْس!
كان الليل قد أرخى سدوله بثقل حين بدأنا نتوغل في مدينة باريس من ضاحيتها الجنوبية، وضعت صوفي إصبعها على أزرار راديو السيارة، وراحت تقلب الموجات إلى أن توقفت عند أغنية جاك بريل الشهيرة “لاتهجريني”، ثم أشعلت سيكارة وناولتني إياها، وقالت: هل سيأتي يوم تصبح فيه هذه الأغنية جرحاً لا يلتئم، ندندن كلماتها عن بعد، ونتحسر على عمر مضى، ولن يعود؟

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار