موشور

حزمة من ضوء، تبقى متماسكة تحت البصر، حتى تعبر موشوراً فتتشتّت كأنها باقةٌ عبثت بها يد فانفرطت! غير أن الفيزياء لا تعرف “العبث” لأنها أمُّ القوانين الصّارمة! أما العينُ فيمكن أن تُخدع وتترك للخيال مساحةً واسعة كأنها ملعب طفولة لا يعرف القواعد التي تسيّر الكون، لذا تتعامل مع العصا المغمورة في الماء على أنها مكسورة، ومع قوس قزح على أنه يملأ الفضاء ويمسك بطرفي الأرض بقبضتيه من دون أن يتداخل فيه لونٌ مع لونٍ آخر، مع إن الحقيقة في عالمٍ آخر مستقلٍّ عن طريقة حواسنا في استيعاب ما يجري.!
حاول الكاتب الروسيُّ الكبير “دستويفسكي” أن يطبق القوانين الفيزيائية على العلاقات الإنسانية التي أبدع في الكتابة عن تشابكها وتعقيداتها ودوافعها لكنه اعترف بإخفاقه في ذلك، لأن النفس البشرية لا تستقيم كالعصا بعد إخراجها من الماء أو “التجربة” وليست قوس قزح أياً اخترق الضوءُ قطرات المطر أعطى الألوان نفسها بتركيبها الثابت فوق بحر أو سهلٍ أو جبل، وعلى هذا القياس الدقيق تدفقت الروايات الغزيرة عن الواقعة أو القصة نفسها، وليست التحقيقات التي تجري، عادةً، تجاه حدث أو حادثة ما، نسميها هنا “جريمة” لتسهيل الشرح، إلا عَرْضاً متعددَ الأبعاد شبيهاً بمرور حزمة الضوء عبر “الموشور”: سيروي المضطهَد الحادثة غير التي يرويها المضطهِد، وكلُّ شاهدٍ لديه روايتُه التي تختلف عن شاهد آخر بتنقيص جزيئيّات أو بزيادتها!, وهكذا تتعدد الروايات وقد تضطرب وتتناقض في كل لحظة تماسٍّ بين البشر خاصة في وقائع الاختلاف! لكن هذا لا يمكن أن يجري من دون ضوابط وفي فوضى عمياء، لذلك وُضعت القوانين التي تحسم النتائج لكنها لا تكسر “المواشير” لأنها الأقوى والأعتى والأكثر استعصاء على الكسر (هي الثقافة والوعي والرغائب والدوافع) وإلا ما كانت الأحداث البشرية تكررت بهذه الرتابة برغم اختلاف تفاصيلها!.
تواردت هذه الخواطر إلى ذهني خلال الشهر الذي رأيت فيه متابعةً حثيثة للأعمال الدرامية، وما أُثير ويُثار حولها من آراء تباعدت في تقييمها وانطباعاتها تباعدَ السماء عن الأرض حتى بلغت وضعَ متاريس يقوم أهلها باستخدام كل الأسلحة للدفاع عن مواقفهم، وملاحَظٌ، ليس غيابَ المحقق الحاذق فحسب، بل القاضي الذي يجمع البيانات ويصغي إلى الشهود وينطق بالحكم المبرم، وهو هنا، ليس إلا الناقدَ الذي ينقل المشاهدَ من وهْمِ خداع البصر والسمع والذائقة إلى التعقُّل والرؤية الكاشفة ومكانِ إقامته الآمن في هذه العواصف النشطة بعناصر التشويق واستلاب العقل!
قد يعلو صوت الناقد، ولا بدَّ أن يعلو ويتضح، متجاوزاً الموشور المخادع، لكنه على طريقة “دستويفسكي” يدرك أن الموشور إياه باقٍ ما بقي الوعي البشري يتشكل بين منطقٍ ولا منطق، وبين وعيٍ ناضج وآخر زائف!.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار