(الملحمة)… شغف بين الماضي والحاضر
إنه صراع محتدم الوطيس بين الآلهة، وأنصاف الآلهة، والبشر، صراع يُساق عادة عبر ملاحم شعرية كبيرة، تُعرض على مسارح ضخمة ذات جمهور، لتنقل لهم عبر أبياتها جعجعة هذا الصدام، كما أنها قد تروي حكايات ومغامرات يخوضها بطل، أو أبطال مع كائنات أسطورية، أو مخلوقات عجائبية يُنتصر عليها بحيل وأحابيل عدة، أو اشتباكٍ مباشرٍ يعكس مدى دهاء هذا البطل، وصلفه، وقوته، إضافة إلى قصص الحب التي تتخللها، أو تكون الأساس الذي تُبنى عليه هذه الملحمة، كما هو الحال في قصة الحب التي جمعت بين (هيلين، وباريس) في “إلياذة” هوميروس، فكانت السبب وراء قيام حرب طروادة، وما تلاها من أحداث، أو عشق (بينلوبي) لزوجها (أوديسيوس)، ورفضها الخاطبين انتظاراً لعودته في “الأوديسة”؛ إنه أدب ملحمي مثّل عصر البطولة بأشكالها، وأصنافها كافة، فحقق شعبية كبيرة لا تزال حاضرة إلى اليوم، إلى جانب أنه كان المهاد الذي هيأ نشوء أجناس أدبية عدة، كالرواية التي قال عنها الناقد الإنكليزي (جورج لوكاش): “بأنها ملحمة العصر البرجوازي”.
غير أن الناظر إلى صنوف الأدب اليوم، يلاحظ أنه، وعلى الرغم من المكانة التي حظيت، وما زالت تحظى بها الملحمة في المزاج الشعبي العام، إلا أنها باتت جنساً أدبياً منقرضاً. فهل ثمة أسباب لانقراضها، وابتلاعها في أجناس أدبية أخرى؟؟ للوقوف على أسباب ذلك تحرينا رأي الأديب والكاتب ناظم مهنا الذي رأى بداية بأن: “الملحمة ارتبطت بفني الشعر والمسرح في الآن نفسه، وأنها من أكثر الفنون التي تتداخل فيها عناصر عدة، بدءاً من الحكاية، إلى الموسيقى الشعرية، إلى الشخصيات..”. وأردف متناولاً أسباب اختفاء الملحمة بأنها: “قد ترجع إلى التغييرات التي طرأت على فنون وأجناس الأدب، حيث انتصرت الرواية، في العصور الحديثة، بشكلٍ كامل على فنون السرد الأخرى، وابتلعت الملحمة. أما الشعر فقد عُزل، إن جاز التعبير، بالقصائد التي تهتم بالإنسان الصغير، أو الحدث اليومي، أو حشد من الأشياء، مُعلناً بذلك انتهاء عصر البطولة، في حين أن المسرح الكلاسيكي قد تحوّل بعد “شكسبير” إلى المسرح التجريبي، أو مسرح الشخصية الواحدة، أو المسرح غير الشعري”. وأضاف في معرض حديثه عن ارتباط اختفاء الملحمة بانتهاء عصر البطولة: “بأن رواية (الدونكيشوت) لسرفانتس هي أفضل رواية جسّدت مفهوم السخرية من البطولة، أي السخرية من الملحمة”.
وعند التطرق إلى الحديث عن البواعث الكامنة وراء خلو الشعر العربي من الملاحم، تحدث مهنا: “بأن بعض الشعراء أمثال (سعيد عقل) يأخذون على الشعر العربي هذا الأمر، وبرأيي إن الإجابة عن ذلك تحتاج إلى وقفة تأملية مطوّلة، ولكن يمكن القول هنا إن ذلك يعود إلى طبيعة الشعر العربي في أنه ليس شعراً ملحمياً، بل إنه شعر غنائي ذاتي، له علاقة بالطبيعة، إلى جانب خلو عالمنا العربي من فن المسرح، غير أن بعضاً من شعراء العصر الحديث كتبوا القصيدة الطويلة التي تشبه الملحمة…”. وتابع مبيّناً أن فن الملحمة في مرحلة من المراحل كان فنّاً سورياً محضاً، أبدع فيه (منيبوس)، وهو أحد شعراء العصر الروماني، فن (الساتورا) الذي هو مزيج بين الشعر والسرد.
وعلى الرغم من محاولات الحداثة السخرية من عالم البطولة، إلا أن الملحمة ما زالت حتى اليوم تجذب القرّاء، ويعود ذلك في رأي مهنا: “إلى أن الإنسان لم يتغير منذ أن فاق على الوعي، فالذائقة البشرية ما زالت تهوى هذه البطولات، وتحنّ إليها، إضافة إلى ما يخامرها من حنين إلى الحضارات والثقافات القديمة”.
وفي الختام يمكن القول أنه وعلى الرغم من انطواء عصر الملاحم، وانطفاء أضواء بُهرج البطولات، غير أنه لا يمكننا إنكار ألمعية هذا الجنس الأدبي، الذي افترش المسارح يوماً ما ولزمن طويل جداً، وهو ما زال إلى الآن يجذبنا إليه سواء عبر مطالعته في بطون الكتب، أم عبر مشاهدته في الإنتاجات السينمائية الضخمة.