(ليس في الجنة قبور).. قصص حسام خضور عن الحرب والزيتون

(ليس في الجنة قبور)؛ مجموعة من القصص القصيرة للكاتب حسام الدين خضور الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وتضم ست عشرة قصة قصيرة لحربٍ تدور رحاها في فلك مكانٍ واحد، وهو الأرض السورية، وفي زمن حربٍ لا تشبه في وحشيتها أي حرب.. ضحيتها التاريخ والأرض، والحجر والبشر، والحضارة.. يتوزع الناس في قصص الكتاب في بلد تقعُ عليه الحرب من سبعة أركانه على طرقاتٍ متشعبة، ما بين طريقٍ إلى الجنان ممهدٍ بجماجم القوم، وآخر إلى الجحيم متأبطاً كفره، وصور مقلوبة بين أطراف الحرب، وطرق أخرى مترامية كسيلٍ من الآلام فاض من علٍ. ما بين أمير حرب وأمير مؤمنين، وما بين نازحٍ ومقيم ومقاتل وقتيل، وستارة تنزاح عن مشهدٍ لحياة رسم لها مصممو الخرائط واقعاً درامياً لا يثيرُ بين ثناياه إلا الأوجاع والألم..

فصلت أحداث قصص المجموعة بقلم قاص استنفر كلَّ حواسه، وامتلك أدوات القص بتقنية ساردٍ متمكن.. تبدأ المجموعة بقصة (ليس في الجنة قبور)، وهي القصة التي حملها عنوان الكتاب – ولنا عندها وقفة مطولة معها- فالمجموعة تمشي على نسقٍ واحد؛ إذ لا يخرج عن منحاه، وعن الحرب وقصصها التي لا تنتهي، في اختياراته لتفاصيل تثير الشجن من جهة، ويمكن اعتبارها وثيقة تاريخية لحرب مات الكثيرُ من قصصها برحيل أصحابها وأساطيرهم من جهة أخرى.
وأمام العناوين المبهرة؛ نقف على العتبات النصية الحاملة لشواغل الإبداع التراكمي (ليس في الجنة قبور، انتقام، حفرتان، إسماعيل، ربوت عضوي، كاميرا وبندقية، لقد قطعوا أشجار الزيتون، سائق، مريم، زيارة، اللون الرمادي، الجندي الذي صار شجرة زيتون، عيد، قرار صعب، غيوم.) إذ أقر الكاتب أنّ لكلِّ قصة حاملاً ورسالة ما، يرغبُ بإيصالها مباشرة أو مواربة؛ فقطع رأس تمثال أبي العلاء المعري في قصة (انتقام) ما هو إلا انعكاس لحالة حقدٍ إيديولوجية ممتدة من عصورٍ خلت على الصوفية ومريدها مع تفنيدٍ لعمق الغباء والتبعية في محاولةٍ لفقء عيني التمثال والتلذذ بسحل رأسه من قبل جاهلٍ إرضاءً لغطرسة أميره. وعلى خطٍّ متواز كان الكاتب يقفُ على قضايا أمراء الحرب الذين اغتنوا في زمن افتقار الوطن؛ إذ يدور الحدث بين حفرتين؛ حفرة الشهيد (رياض) ملفوفاً بعلم الوطن، وحفرة (حمدان) لتأسيس مجمعٍ تجاري.. وبين الحفرتين تضيع حكايات الوطن لتنسج لاحقاً قضايا أشدُّ تعقيداً وقهراً من الحرب ذاتها. وأمام أحداث لقصص شهداء جردتهم آلة الحرب وحقدها من هويتهم البيولوجية، فتداخلت الأجساد وبقايا العظام مكونة نسيج من الرضا والحزن في آن معاً، لتصدح عبارة والد شهيد نودي باسم ابنه (إسماعيل) ليحظى بشيءٍ من رفاته غير آبه بالأسماء “كلهم أبنائي لا فرق بين تابوت وآخر”..
وعلى عتبات المنافي ضاعت هوية الكثيرين، ليتحوّلوا إلى ربوتات مبرمجة لصالح من افترشوا عنده شتاتهم، فضاعت مراميهم وأحرق القهر مراكبهم مع قصة من عمق عوالم الهجرة، لا شيء عاد ينفع فيها؛ لا بقاء ولا عودة، ولا حتى النشيج بين يدي أصدقاء لهم مكانة الروح تُركت تنوح على طرف اتصال هاتفي. (ربوت عضوي).. ولا تتوقف المعارك عند حدودها اللوجستية، فقد تتعداها إلى حرب النفوس.. بين بقاءٍ يلفه العوز، ورحيل سيدمي الأرواح شوقاً إلى مرابع الصبا، ليسقط الكثيرون في آتون القرارات الصعبة..
في قصص خضور، وفي أكثر من مكان تركيز على شجر الزيتون وعمق اتصاله بالمكان والبيئة، ورمزيته المقدسة.. لتصير شجرة الزيتون في أكثر من موقع هي الإنسان نفسه.. ليذيّل قصصه بغيمة سوداء تكاد تحط على جبل قاسيون من مخلفات انفجارٍ هزّ المدينة.. لتعقبه (غيوم) قررت أن تغسل أوجاع المكان، وتروي عطش الأرض إلى ماء السماء ورحمة حكم عرشها.. اعتمد الكاتبُ على أسلوبٍ فصيح في سرده للحدث منوّعاً في أدواته وضمائر المتكلم والغائب.

(ليس في الجنة قبور) عنوان للمجموعة القصصية أيضاً، العتبة النصية الأولى التي يتوجب على القارئ تخطيها بجدليتها وما تثيره من فضولٍ نفسي، متجاوزاً إياها إلى مكونات القصة الأساسية التي تنتمي شكلياً وتجنيسياً إلى فن القصة القصيرة من خلال زمانها المفتوح على مصاريع سني الحرب الظالمة على بلاد الياسمين، وأمكنتها المفروضة على الحدث تنوعت بين بيت الشخصية الرئيسة (صفية)، بيت رجل الدين صلة وصل العبيد مع الجنان، والمكان المفترض تفجيره (مدرسة أم صفية)، وشوارع المدينة، والمقبرة.. أما الشخصيات فالرئيسة منها هي صفية: العاشقة للانتحاري، المنتظرة لقاءه في جنة عشق خصهم الله بها أهل الفضائل الدموية ضحية الفكر المتطرف حيث يقودها الصراع الاجتماعي والسياسي والديني إلى التضحية بطفولتها وحاضرها وحتى مستقبلها، وربطها بجثة تقبع بانتظارها في جنان الخلد، والمدعي كرجل الدين عميد عملية التفجير، إذ أمعن الكاتب في وصف شبقه في حضرة صفية، مثيراً حالة جدلية بين ما هو عليه وما يضمر، والشخصية الثالثة، مهندسة العملية الانتحارية بورعها ولطفها، وما كانت حريصة

على إظهاره من تقى وورع ودفء لتستطيع تحقيق غاياتها النفسية المرجوة منها، وقد قامت الحكاية على أحداث متتابعة في بناء القصة، وليتناوب الصراع بين الداخلي والخارجي، فالصراع الخارجي كان بين طرفي الحرب، أما الداخلي؛ فيكمن في ذلك الصراع الخفي في نفس صفية، وطريقة الوصول إلى معشوقها، وخوفها الدفين من القبور وعذاباتها التي لا تجد مبرراً لوجودها.. الحدث السردي كان صاعداً ومتنامياً ومرتباً على نسقٍ نفسي واحد، وأمام الحبكة المتماسكة التي عرضت القصة في تناوبٍ للحدث بين صعودٍ ونزول، وكأننا أمام مشاهد سينمائية متناسقة ومثيرة تماماً في خضم السرد القصصي، وكذلك عرض الفكر بصورة حكائية لها بداية ووسط وخاتمة، وقد سيطر الحدث الصاعد حتى وصل بنا إلى الذروة محدثاً دهشة غير متوقعة حين غيّرت صفية قواعد اللعبة، بتغيير مكان الحدث، فختم القاص عمله الإبداعي عند جزء الذروة ما منح القارئ النهاية المفاجئة.. لغة الكاتب سهلة وبسيطة، وقد حمّلت ألفاظه طاقات معنوية هائلة تتناسب والحالة الشعورية للشخصية، والنص تميّز في بروز الحوار في أكثر من مكان.. كالحوار الذي ظهر في بداية القصة بين صفية والشيخ صاحب البسمات الداعرة، والحوارات المتعددة بين صفية وعرّابة العملية الانتحارية.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار