أمي التي تألمت وتوجعت ثلاثة أيام بلياليها حتى ولدتني..
أمي التي ربتني بعرقها ودمعها ودمها..
أمي التي تحملت ومازالت تتحمل الكثير من الآلام النفسية والجسدية من أجلي..
أمي التي تنفستُ من رئتيها..
أمي التي أرضعتني لبن المحبة والكرامة ونكران الذات..
أمي التي غرست في كياني شريعة تقديس العمل..
أمي التي كان هاجسها أن نرتقي وإخوتي إلى مراتب العلم العالية بالرغم من عدم تعلمها..
أمي التي كانت تهيئ لنا الجو الدراسي المناسب لتلبي طموحاتها وطموحاتنا العلمية..
أمي التي زرعت فيَّ محبة الله والإنسان..
أمي التي لم تفرق بين قريب وبعيد، بين دين وآخر..
أمي التي قوّمت بحزم مقرون بالحنان طريق حياتي وحاسبتني على كل هفوة ارتكبتها بشدة، فقوّمت عقلي وقلبي..
أمي التي مازالت تتابع خطوات حياتي وترشدني بخبراتها الغنية ونصائحها..
أمي التي قالت لي يجب ألا يختلف أبناء الفقراء فيما بينهم..
أمي التي أرضعتني عملاً وقولاً لبن التماهي مع الإنسان وخاصة الأكثر حاجة..
أمي التي خاطت بإبرتها اليدوية ملابسي وملابس إخوتي الداخلية والخارجية على ضوء الكاز لانشغالها الشديد نهاراً بالخبز والحليب وإعداد الطعام وإكرام الضيف..
أمي التي كانت تطلب مني أن أنقل بواكير حليب مقتنيات أهلي من الغنم والماعز ومشتقاتها لمحتاجيها في قريتي الغالية “صمّا” المتربعة في الجزء الغربي من محافظة السويداء والمتاخمة أراضيها لأراضي قريتي ناحتة والمليحة الشرقية التابعتين لمحافظة درعا والواقفتين إلى الغرب منها.
أمي التي لفتت نظري وأنا أؤدي الخدمة الإلزامية بين أعوام 1972-1976 إلى وجود طفلتين في قريتي تنقصهما علب بودرة الحليب طالبة مني تأمينها شهرياً، فلبيت طلبها بمحبة فائقة رغم محدودية ذات اليد..
أمي التي قالت لي وأنا في التاسعة من عمري ونقلتُ حينها كلاماً خاصاً بغيري، كاشفة عن قميصي الداخلي ومردفة:” كلام الناس ثوب داخلي لا يجوز الاطلاع عليه.. ”
أمي التي آزرت المرحوم والدي في استضافة الغرباء وخاصة الأكثر فقراً وتهميشاً بمحبة وتواضع وكرم نفس رغم فقدانهم الحدود الدنيا للنظافة الناتجة عن ندرة وجود المياه في الأماكن التي كانوا يقطنونها..
أمي التي حلّت مشكلة نظافة مفروشات ولحف ووسائد الضيافة لإخوتنا المهمشين برشها بسائل الـ”د.د.ت” القاضي على الحشرات والطالبة مني وهي ملثمة الفم والأنف أن أقلب هذه الفرش وهي تردد “قل المجد إلك يا الله”.
أمي التي تكفلت بمؤازرتنا بتحمل أعباء جني محصول الأرض عندما ألزم المرض المرحوم والدي الفراش في صيف عام 1967 إضافة لتحمل أعباء أعمال البيت الشاقة من إعداد الخبز وحلب المواشي وطهي الطعام وتنظيف البيت وجلب المياه من المناهل الواقعة خارج البيوت..
أمي التي شعرت بتلكؤي في أعمال جني المحصول في ذلك الصيف المتعب والحار من تعب الحصاد بين الخامسة صباحاً والواحدة بعد الظهر, ونقله إلى البيدر بين الرابعة بعد الظهر والثامنة والنصف مساءً ممسكة بقميصي الخارجي قائلة: اعلم يا ابن الخامسة عشرة أن مصير هذا الجسد طعام للدود فافنِ جسدك بأعمال الخير قبل أن يفنيه الدود.
أمي التي رددت على مسمعي بشكل متواتر وخاصة عندما أتكاسل أو أتلكأ في عمل ما: الجسد لحمة أكربها بتنكرب ارخيها بترتخي.
أمي التي نبهتني بمحبة وحنان حين قصّرت مادياً لأشهر في بداية زواجي عام 1982 قائلة لي: بالتنظيم تستطيع أن تفي البيتين حقهما، فلبيت بمحبة فائقة وشكر مقرون بالغبطة والسرور.
أمي التي ختمت وصاياها لي بقولها: يا بني يا حسن مش مهم تكون مليح، فأجبتها مندهشاً: لكن شو المهم يا أمي؟ فأردفت: أن تبقى مليح لآخر لحظة في حياتك.
أمي مطعمة النملة في وكرها وحاميتها من طيور السماء..
والدتي مرضعتي حليب ضيافة الغريب والمهمش والأكثر حاجة والاهتمام بهم..
والدتي حافظة أسرار ومكنونات كبار وكبيرات قريتي أرضعتني لبن المحبة والتقوى والأمانة والمسامحة و التماهي مع الأكثر حاجة.
المرحوم والدي و والدتي فرشا لي الطريق وعبداه بجهودهما المضنية عقلياً ونفسياً وجسدياً ومادياً لأصبح “كاهناً”.
غيضٌ من فيض فجّرته ذكرى عيد الأم، أقبّل يدي أمي ووجنتيها ورأسها طالباً لها موفور الصحة والآخرة الصالحة بعد طول عمر، داعياً أن يكون والدي أحد الفائزين برؤية نور المسيح معايداً أخواتي أمهات الوطن وخاصة أمهات الشهداء والجرحى والمفقودين داعياً لهن ببلسمة الجرح غير ناسٍ معايدة نساء العالم أجمع.. وكل عام وأنتن بألف سلام وخير..
قد يعجبك ايضا