بحضور سوري روسي: الباحث الحريري مازالت تدمر مدرسة لمن أراد أن يتعلم التاريخ
“لا تخلو أي حضارة من الحضارات من ميثولوجيا وثقافة دينية خاصة بها، فكان لكل حضارة ميزات خاصة بها فصلتها عن حضارة أخرى أو قربتها في بعض الأحيان، فكان كل شعب يضفي عليها لمسات من الإبداع وبعداً من الخيال والتأمل العميق في التفكير والإحساس المرهف”.. هذا ما قاله الباحث في آثار وتاريخ تدمر، الدكتور خليل الحريري، وذلك خلال الندوة التي أقامها مؤخراً المركز الثقافي الروسي في دمشق بعنوان ” الشعائر الدينية عند التدمريين” والتي شهدت حضوراً سورياً وروسياً واسعاً .
ويذكر الحريري: “ولد الإنسان فوجد نفسه محوطاً بطبيعة مليئة بجبال وبحار وأنهار ونجوم وشمس وقمر وسماء وأرض وعدالة وظلم ومحبة وكراهية وخوف عقاب وقصص كثير متنوعة، و عد هذا الإنسان أن كل ما يحيط به من الطبيعة مقدساً و عدها علامات ظاهرة لأرواح خفية وهي كالإنسان يتأثر بما يتأثر به في وجوده الإنساني، وتسأل عن أصل الوجود وقوانينه والكون وتكوينه ومنشئه ومصيره وبدايته ونهايته”. وبما أنه “لم يجد تفسيراً علمياً لمختلف ظواهر الطبيعة، أخذ يجسدها ويبرزها كائنات حية في ثوب رمزي معبراً عن مختلف أفكاره بآلهة لها أشكالاً بشرية، فجعل لكل قوة إلهاً ولكل فكرة ربة نسب إليها أعمالاً خارقة وتخيّل لها أخلاقاً وصفات وميزات وعلامات وذلك بما يتفق مع عاداته ومفاهيمه وفكره في فجر وجوده “.. فقد اعتقد الإنسان التدمري بكائنات إلهية تملأ الكون وتحكمه فأحبها وآمن بها وابتهل إليها وتقرب منها وضحّى من أجلها وتخيّل أن لكل منها أعمالاً خارقة وصفات خاصة فتناقلت الأجيال هذه القصص المتوارثة فكان له تأثيره الكبير في ثقافة الأجيال ومعارفها وتأصلها في نفوس الأفراد، فتمسكوا بها ودافعوا عنها وقدموا لها الغالي والنفيس من القرابين والأضحيات والعطايا، وبنوا لها بيوت العبادة والهياكل حتى ترضى عنهم وأطلقوا عليها أسماء عظيمة تعظيماً وإجلالاً لها”.. وبيّن الحريري في محاضرته أنه بما أن الإنسان لم يُخلق إلا بقصد خدمة الآلهة “فمن الواضح أن يقوم بتقديم أفضل الخدمات لها من بيوت العبادة ليخلد جميع الآلهة نحوه وتأدية شعائره الدينية وطقوسه المختلفة”، مشيراً إلى أن مدينة تدمر كانت في قلب المعتقدات والثقافات الدينية المختلفة لكونها نقطة التقاء بين الشعوب والحضارات ومحوراً للكثير من الآلهة منها الآلهة المحلية أو الآلهة الوافدة بحكم العلاقات التجارية بين التدمريين والحضارات الأخرى.
وفي هذا الإطار، قدّم الحريري شرحاً مفصلاً عن “البانثيون التدمري” الذي حفل بعدد كبير من الآلهة المتعددة منها: الإله “بل” الذي تربّع على قمة مجمع الآلهة التدمرية وهو موجود عند الحضارات الأخرى فهو “زيوس” عند اليونان و”جوبيتر” وهناك الإله “يرحبول” وهو إله الشمس والإله “عجليبول” وهو إله القمر والإله “ملاكبل” وهو رب الحقول والقطعان وكلمة “ملاك” تعني “الرسول” أي إنه رسول الآلهة أما الإله “نبو” فهو إله رافدي له معبد بتدمر وهو الابن الأكبر للإله “بل” وهو إله الحكمة وكاتب الأرباب و”نبو” يعني نبي أما الإله “بعل شمين” وهو الرأس الثاني لمجمع الأرباب التدمريين وهو سيد السموات ومهنته وصفاته تختلط بصفات الإله “بل” وهو رب الصواعق والأمطار ، أما الإله “بلحمون” فهو إله المياه الحامية وله معبد فوق جبل المنطار الواقع فوق نبع أفقا المقدس، بينما لم يذكر اسم الإله المجهول ما يدل على فكرة بداية التوحيد عند التدمريين وذكر باسم الطيب والرحمن الرحيم المبارك الصالح المعطي وهذه الأسماء من أسماء الله الحسنى.
وتابع الحريري أن الربة اللات (أثينا) مينرڤا، كانت على رأس قائمة الآلهة التي عبدت في تدمر وهي الربة المحاربة وكان لها معبد بتدمر بالقرب من معسكر ديوقلسيان، وقد اكتشفت لها منحوتات كثيرة أهمها تمثال الربة اللات الرخامي ومنحوتة أسد اللات، بينما كان “آرصو” و”عزيزو” كوكبا الصباح والمساء وأيضاً (منوة) مناة وتعني المنيّة أو القدر أو المصير كما هناك الرب “جاد” رب الزيتون وهناك شيخ القوم (شارو) وهو الإله المستيقظ الذي يحمي القوافل التجارية و كان للإله “رحم” أو “رحام” معبد قرب معبد اللات وأيضاً “دورحالون” وهو من آلهة العرب في الجزيرة العربية وكلمة “دورحالون” تعني الدوران حوله أي الطواف حوله ، كما اكتشف للإله ذو الشرى (باخوس) منحوتات كثيرة بتدمر وهو إله الخمرة ورئيس مجمع الإله عند الأنباط.
كما سلّط الدكتور الحريري الضوء على الآلهة الوافدة من الحضارات الأخرى إلى البانثيون التدمري، إذ اختلطت أسماء الآلهة وصفاتها مع بعضها البعض، مشيراً إلى أن الباحث في تاريخ الأديان لابد من أن يعترضه الكثير من الالتباسات في تحديد أسماء الآلهة ما يتسبب أحياناً بالخلط بين الآلهة من حضارة إلى أخرى كما كانت تتغير صفاتها ومهماتها أو اختصاصاتها وبقيت صفاتها غير ثابتة.
وفي هذا السياق ذكر منها الربة السورية “اتارغاتس” وهي ربة منبج اكتشف لها نص بالقرب من قوس النصر، أما “تيكا” فقد عُبدت في تدمر وهي تمثل حامية المدينة اكتشفت لها عدة تماثيل أهمها مع الربة “عشتار” بجانب معبد “نبو” وأيضاً الإله “رشف” وهو من الآلهة الوافدة إلى تدمر والإله “شدرفا” والآلهة “عشتار” آلهة العاطفة وآلهة النصر “فكتوريا” التي كانت تُخصّص للملوك والأباطرة العظماء المنتصرين وفي تدمر جسدت معنيين للنصر الأول نصر الجيوش التدمرية على الأعداء والثاني انتصار الموت على الحياة.
هذا وكان إله الطب عند اليونان (ايسكولاب) وهو أيضاً إله الحكمة والطب في بلاد مابين النهرين ويحمل اسمه معنى طبيب كل الأمراض من الآلهة الوافدة إلى تدمر إضافة إلى إله الحب “ڤينوس” (افروديت) وهرقل وهو أشهر أبطال اليونان و”دياسيرا” والإله الحامي (الساتير) الموكل بحماية القصور والقبور ومهمة مراقبة الأسواق والأسعار، إلى جانب الأخوان السبعة الجن وأختهم وهم عبارة عن كائنات أدنى من الأرباب وردت أسمائهم في عدة نصوص في تدمر بجوار معبد بعلشمين ومعبد نبو، وقد تكون الجن حامية قرية أو لقافلة تجارية كان لهم معبد في موقع شمال غرب تدمر.
كما بيّن الباحث أن تدمر في فترة ازدهارها كانت مدينة التجارة والعبادة في آن واحد اجتذبت إليها الناس من كل حدب وصوب سواء كان للعبادة وإقامة الطقوس الدينية أو للتجارة أو كليهما وعلى الرغم من النقص الكبير في النصوص التي توضح لنا مدى علاقة الإنسان التدمري بالدين فلا بد من الحديث عن بعض الشعائر الدينية التي كانت تُمارس في تدمر لتوضيح أهمية هذه العلاقة بين الفرد التدمري وديانته وذلك من خلال بعض الأمور الهامة والتي لها علاقة مباشرة بالدين كالعيد و الطواف (من أهم طقوس المعبد)، إضافة إلى الأضحية، الوليمة الدينية وتقديم النذور والقرابين وحرق البخور، إضافة إلى وجود الكهنة ودورهم بالمعبد وأيضاً إيمان التدمريين بالحياة الأبدية وكان المدفن هو بيت الأبدية، إلى جانب المأتم (الموت) وطقوس الدفن وأهمية الموت وطعام الموتى (الوليمة الجنائزية)، وماذا يدفن مع الميت من تمائم ومدامع وسرج.