«عندما كبرت الخسّة»!
ربما كثيرون اليوم، ولاسيما المهتمون بالمشهد الثقافي؛ قد انتبهوا إلى (اضمحلال) نوعٍ أدبي كان حتى الأمس القريب متوهجاً، وله مبدعوه الذين يُضاهي حضورهم حضور أي كتّاب لنوعٍ أدبيٍّ آخر بمن فيهم الشعراء.
هذا النوع الإبداعي الذي أشير إلى اضمحلاله؛ هو فن القصة القصيرة، التي تكاد تُختزل بـ(القصة القصيرة جداً)، والطريف في أمر القصة القصيرة جداً، ولشدّة تقاطعها مع القصيدة اليوم، ولاسيما شعر الومضة؛ فإن أصحابها خلال الفعاليات، حيناً يقدمونها على أنها قصيدة، وطوراً آخر يقدمونها على أساس أنها قصة قصيرة جداً، وذلك حسب نوع الفعالية.
لكن ليس هذا هو موضوع هذه الزاوية، وإنما أشير من خلال ما تقدم إلى أن أحد أسباب (اضمحلال) فن القصة القصيرة؛ أنها كانت يوماً ما، ولشدّة ارتباطها بالصحافة؛ كانت تُشكّل –تقريباً- أحد الأنواع الصحفية، وعندما كبرت «الخسّة في رأس كُتّابها» ذات حينٍ من أمجاد القصة القصيرة، وصارت تُصدر بمجموعات قصصية؛ صار مبدعوها ينظرون شذراً إلى الصحافة، وما كان من الأخيرة سوى أن ردت بفعل التجاهل للقصة وفنونها.
وفي الشعر أيضاً، لطالما كانت العلاقة مُلتبسة بين الصحافة والقصيدة ذلك أن الشعراء والأدباء كانوا دائماً يعانون من التمزق الداخلي بين انحيازهم وانصرافهم إليه بشكلٍ تام، وبين ضرورات الحياة التي تجعلهم مضطرين لمزاولة مهن أخرى يحصلون بواسطتها على لقمة العيش، ويتجنبون من خلالها مزالق التبعية وإذلال النفس.. وإن نظرة إلى واقع الشعراء والأدباء منذ بداية القرن الماضي إلى ما بعد عقدين على منتصفه؛ تقودنا إلى استنتاج أن معظم هؤلاء توزعوا على مدى مهنة الصحافة.. وإذا استعرضنا أغلبية الأسماء الأدبية منذ بداية القرن العشرين لوجدناها موزعة جميعها بين مهنتي الصحافة والأدب، وذلك من الشيخين ناصيف وإبراهيم اليازجي، أحمد فارس الشدياق، يعقوب صروف، جبران خليل جبران، إلياس أبو شبكة، الأخطل الصغير، طه حسين، العقاد، بدر شاكر السياب، بلند الحيدري، صلاح عبد الصبور، أدونيس، وإحسان عباس، إدوارد سعيد، و.. عشرات غيرهم.
والمتتبع لحياة الأدباء وتصريحاتهم وسلوكهم؛ كان يلحظ تبرماً من مهنة الصحافة وتطلباتها، وحالة الشاعر في أن يظل مفتوح الذراعين لاحتمالات القصيدة المقبلة والأدب العربي يغص بالقصائد الهجائية التي كان يطلقها الشعراء على مرؤوسيهم في السخرية المرة.
ومع بداية التسعينيات؛ بدأ هجر الأدباء للصحافة، وتحديداً المكتوبة منها؛ فكان أن تحولت مهنة الصحافة إلى (وظيفة) أكثر منها مهنة إبداعية، فيما الأنواع الأدبية تكاد هي الأخرى تكون (هموماً وشواغل) شخصية لا تهم سوى أصحابها ومحصورة ضمن دائرة المشتغلين بالأدب.. ولا مناص لانتعاش الأدب والصحافة اليوم من عودة الأدباء للقيام والنهوض بالصحافة وتكون الأنواع الأدبية – ولاسيما القصة والقصيدة- جنباً إلى جنب مع الأنواع الصحفية لتعود لكلا الإبداعين شاعريتهما الساحرة!
هامش:
في أمكنةٍ
لا تملّ الريحُ تصفرُ فيها؛
عبثاً كان يفتشُ عن أبوابٍ
يسدّها ليستريح.