هل تذكرين ياغاليتي ؟!

لا أقول وداعاً فالغياب عن القلب هو الوداع والحضور في الروح لقاء يتجدد مع نبضات القلب والأمنيات بالفرح والسعادة دعاء وصلاة للمحبين ..ولا أقول إني لا أشتاق إلى الرؤية ولكن الشوق يجدد الود والمحبة فأرضى به مادام اللقاء قريباً .
غريبة تلك الحالة التي نستشعرها فالظلال الزرق ترفرف في مخيلاتنا وتكاد تحجب إشراقة الشمس منذ الصباح الباكر ..تقول الصغيرة لأمها وهي ترتمي في حضنها لماذا علينا أن نسافر يا أمي ؟!
لماذا علينا أن نترك باحات لعبنا وأصوات شجارنا مع إخوتنا ولحظات المفاجأة حين يكتشف أولاد الجيران أين نختبئ؟ ولماذا علينا أن نضع أشياءنا الصغيرة في الحقيبة ونرحل ؟!!
أنا أحبكم أحب تلك العائلة الكبيرة ..كل صباح أرسم قطاراً ملوناً وفي كل مقطورة يجلس فرد من عائلتي بينما أقود القطار إلى الأماكن التي ينتظرها ويحبها كل منكم حيث تكون سعادتكم ويكون لي نصيب من ابتسامتكم .اليوم علينا الرحيل وترك بيت جدي وأقول لكل واحد منكم دائماً سأكون في شوق لكم .
الكلمات الأخيرة أسدلت الستار على كل خطوط اللوحة.. اختفت الألوان وانطلق القطار وغاب الركاب مع تلويحات الأيدي الصغيرة..أمسكت الأم بيد الطفلة نظرت في عينيها المتلألئتين هناك رأت صوراً كثيرة عانقت الطفلة وهمست في أذنها وعداً جميلاً بالعودة في أقرب فرصة . كم هي قاسية الغربة..هل اخترناها بإرادتنا أم أنها قدر أحاط بنا ؟.
في حين يبحث المسافر عن حلم بأجنحة يطير في السموات يقول سأبني قصراً وأكتشف البحار وأعيش مغامرة جميلة في الغابات, أتدحرج على الرمال وأقضي فسحة من الوقت في واحة من النخيل ..لكن مع الأيام تتبدد الأحلام يجد نفسه لاهثاً وراء لقمة العيش أشبه بصخرة قذفها الشلال إلى أرض خاوية لاشيء سوى الضياع في متاهات الغربة اللامتناهية .
البيوت في الغربة لا تقي من برد أو حر ذلك الذي يصيب القلب .. ترتسم الابتسامة على الشفاه أمام الغرباء .. لكن ابتسامات العالم كلها غير قادرة على تغيير ملامح الغربة والنظرة البائسة إلى الغريب .. مهما تحاول مكتوب عليك أن تبقى غريباً .
ما أجمل الذكريات.. شوارع الشام العتيقة وأريج الياسمين يتسلق الجدران ..والمجنونة البنفسجية تتعربش فوق أشجار السرو والحور باقات من البنفسج ..وصوت الأذان ينطلق في الفضاء والجامع الأموي منارة تفيض بالأنوار والبركات تهدي إليها الأرواح المتعبة ..وسوق الحمدية تتعانق فيه روائح البهارات والعطريات وحيثما نلتفت تتعلق أبصارنا ببضائع متنوعة وكأنك في سوق ألف ليلة وليلة كل ماتتمناه تجده ثياب العرائس والشرقيات والنحاسيات والجلديات والألعاب والسكاكر والحلويات ..وفي الخانات القديمة دهشة أكبر فذلك الركن الذي شهد تجمع القوافل التجارية من كل أصقاع العالم من الشرق والغرب والهند والسند أصبح فسحة تشكيلية كبيرة تزين جدرانه الأحلام والأفكار والقصص المخفية والعلنية والخيالات التي انسكبت على شكل ألوان وخطوط وزخارف .. أفرش الطريق القديم الى قصر العظم ..ستذكرين ياغاليتي تلك الحياة القديمة المتجددة في القصر تروي أحوال ساكنيه .. ستذكرين لحظات الصمت ولحظات الفرح وسط ضحكات الصغار وأسئلتهم التي لاتتوقف عن كل مشهد ..أشياء وأشياء نعرف عنها القليل وينتظرنا الكثير لنكتشفه في أعماقنا ونتفاعل معه كما حدث وكان في تلك الأزمان وكأننا نستمع الى حكايات شهرزاد.. هاهي الشام بكل تفاصيلها تنبض في الروح ..أنتظرك كل عام .. مع كل المحبة والمودة .

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار