الشاعرة عتاب لبَّاد: «اختزلني فاض عني الكثير»

من يقرأ مجموعة «اختزلني فاض عني الكثير» للشاعرة «عتاب ميشيل لباد» (دار سين للثقافة والنشر والإعلام- 2021) سيتماهى مع الفيض الشعري المسكوب بعناية مُركَّزة في قصائد، فلا تلبث مجموعة عبارات أشبه بالبوح أن تتحول إلى قصيدة بعبارة ختامية واحدة، وما أن ترسم «لباد» سينوغرافيا المشهد بتفاصيله الغنية حتى تُعيد تركيبه من جديد بكلمة أشبه ببصيرة نافذة أو نكء لجرح عميق أو في بعض الأحيان أقرب إلى قنبلة تفجِّر المشهد برمَّته، ولا تكاد تنتهي من ترميم الذاكرة وتوضيب حاجيات الحنين وإحياء الشوق والشغف، حتى تعيد تنسيق الحالة الشعورية وتتهرب من أسئلة الألم وإشارات استفهامه الكبرى. بحيث أن عنوان الكتاب جاء بمثابة بوصلة لما اشتغلت عليه الشاعرة: اختزال متقن يُشعل لهيب اللغة وطاقتها الكامنة، مع فيض في اكتناه معاني الحب والموت والفداء والأحزان المتوقِّدة في التفاصيل والسَّعي لتبريرها شعرياً على الأقل، مع المحافظة على أنا متفرِّدة في التقاط كل ذلك وتخميره لغوياً حتى اكتمال القصيدة.
تقول «عتاب» في القصيدة التي حملت عنوان المجموعة:
«اختزلني فاض عني الكثير..
حلم ملونٌ..
واثنان بالأبيض والأسود
روحٌ مستعملة بستّةِ أجسادٍ
.. اختزلني..
فاض عني قبلتان وجنينٌ لم يلتقطهما ولا عابرٌ
فاض عني أطنان مربى تينٍ وثلاثةُ أرغفةٍ..
اختزلني ليبقى مني جرسٌ
يُعلَّقُ على شجرة ميلادٍ صارت أكبر من وطنٍ…
لم يعد يتسع لأحد».
المتناقضات تُعشِّش في ثنايا ما تكتبه «لباد»: الغياب والحضور، الموت والحياة، الحب والكراهية، الصدق والكذب، المعرفة والجهل،… وكأنها لتُصوِّب سهامها الشعرية، تلعب على إعادة دوزنة المعنى وفق مقتضى القصيدة، فتشتغل على قلب الأدوار حيناً، وتصويب الخلل في تفاصيل الحكاية حيناً آخر، من دون تكلُّف ولا اصطناع، بل بسلاسة روبنهودية، لدرجة أنها ترتضي أن تكون هي الضحية دائماً فداءً للشعر، ولا تكتفِ بذلك، بل تُسلِّم جلَّادها، على اختلاف تمثُّلاته من حبيب أو عاشقٍ مارق أو حتى وطن، كلَّ مفاتيحها دفعةً واحدة، لتخفف عنه عناءاته في قتلها. تقول في إحدى قصائدها:
«تعال
وإن كنتَ رصاصةً
تُصوَّب نحو القلب
لن أتفاداك
تعال
وإن كنت غصّةً أخرى
تكاد تخنقني
لن أطبق فمي
تعال
وإن كنت ذكرى
شوهت ملامحي
سأذكرك مجدداً
تعال
وإنت كنت حبل مشنقتي
سأعطيك عنقي
لأهلك أنا
تعال
هذا الشتاء
هذا الشتاء فقط.. لأكمل القصيدة».
ورغم كونها ممعنةً في تعبها، إلا أنها لا ترتضي سوى المزيد، ليس من مبدأ مازوخي، لكن لأنها تعرف مربط الفرس في لغة الحب، وتعرف أيضاً أن تُعزِّز أوهامها الجميلة، لذا تقبل أن تؤدي جميع الأدوار على تنوع أصواتها واختلافاتها، وأن تجعل من صرختها الشعرية مونودراما شفيفة مليئة بالأحزان وطاقة الحب المديد، كما أنها تكسو رغبتها وفق رغبتها شريطة أن تُنهي الحكاية كما تشاء. تقول «لباد»:
«توقف قليلاً
لا ترهق ذاك القلب المبجل
لا تشغل رأسك الجميل
بأمورِ العشق والعشاق وترهات المراهقين
دعني أحبك عني وعنك
دعني أنا التي أقترب وأبتعد
أنا التي تقدم لك الزهور أنا التي أخونُ وأعتذر
أنا التي تقلك لباب المطار
دعني أحبك عني وعنك
لا ترهق شفاهك العسلية بكلام سمعناه..
دعني أقل كل ما قيلَ ويُقال وسيقال..
أتوهّم العشق ليلةً.. برفقٍ غازلني
برفقٍ اهجرني
واذهب إلى مثواك الأخير».
ولأنها على يقين بأن «البيت صار صليباً.. تُعلَّقُ عليه كلّ مساء» وأنه في الطريق إلى القيامة ثمة الكثير من «المتطفلين على الموت»، تراها تؤثر تأليف الحكايا التي تليق بها، وباشتهاءاتها الحقّة، ورغبتها الصادقة بأن تنقلب على شهريارها الآثم، كي لا تبقى أسيرة شبقيته ورغبته في سفح الدماء، لذا توارب حياةَ قصائدها بذكاء الأنثى، وتتشهى انبلاج الصبح على هواها، مُتذرِّعة أن ذلك ليس كُرمى عينيه، أو لانشغالها بذكراه، بل لتؤنس وحدة الرصيف، وها هي قصيدتها تنضح بذلك:
«ألَّفت عنك ثلاث قصصٍ
يوم التقيتكَ
يومَ قتلتني
ويومَ موتك
كل قصصي عنك كاذبة
لم أعرفك يوماً
وما التقيتك
أنتَ حلمٌ راودني حين كنت ثملة
وكذبةٌ أتقنتها
حتى أُسلّي رصيفاً
كان وحيداً مثلي».
لكن «عتاب» رغم ذلك، تُعلن في قصائد أخرى من مجموعتها، أنها تأبى النسيان، ولا تتنكر لفضل الألم في رسم ملامح لغتها، ولا لغربتها في تطييب مذاق الحياة والموت معاً، لاسيما أن كلاهما بات مملاً، وبحاجة الشِّعر لتحمّلهما، ولذلك ما زالت تحتفظ بالرسالة الساذجة التي هجرها بها حبيبها، وتقتفي أناها الغريبة المملوءة بذكريات غيرها، وتشعرها أنها أطفال غيرها، وجدات غيرها، وموت غيرها، وألف عاشقٍ مرَّ ولم تكن تعنيه، ومع ذلك بقيت متمسِّكة بحس الفكاهة المميز فيما تكتبه رغم الفجائع، وكأنها تضحك على الموت وترشُّ عليه سُكَّر، تقول:
«لا تقطفني
دعني معلقة كآخر حبة جوز
سأسقط يوماً
وتنقرني العصافير
لا تقطفني

فأنت غير جدير بي
ولا بالجوز».
وكما الموت والحياة وجهان لعملة واحدة، أيضاً الغياب والحضور متكافئان في ميزان الشعر، ولا غلبة لأحدهما على الآخر سوى من زاوية الخسائر، وثقل الوقت، فالرحيل يجعل حياة الشاعرة أطول وحبل المشنقة أقصر، كما تقول، وهنا يأتي العتاب بصيغة مُفَارِقَة، وتحمل الكثير من تناقض الحالة الشعورية، إذ تندغم اللامبالاة الظاهرة مع حجم الاشتياق العميق، ويصبح لصبر العُشَّاق معنىً أكثف وأكثر مشقّة على الاحتمال. تقول عتاب:
«في غيابك لم يحدث الكثير
هذه البلاد صارت أرملة
والهواء صار بليداً..
غيمتنا صارت بنفسجية
وآخر آيةٍ في الإنجيل سرقها المنجمون والسحرة
في غيابك لم يحدث الكثير
نسيت أن أتنفس ألف مرةٍ ومتُّ مرتين».

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار