غليان في البحر الأسود
لا يبدو الوضع في البحر الأسود سيحافظ على هدوئه النسبي لوقت طويل، فالأساطيل تجتمع تحت عناوين مختلفة، لكنها حربية الطابع، فالسفن فوق الماء والغواصات تحتها تحرك مياه البحر التي لم تسكن بالأساس، إضافة لتصريحات غير مسؤولة تصدر من أوكرانيا ومن قوى غربية وقوى تدور في فلكها.
التناوب على التصعيد في البحر الأسود صفة للمغامرين الغربيين البعيدين, والمواقف متباينة، فبينما تنسحب سفن أمريكية، تتقدم بريطانيا بسفينتين، وتركيا تشارك في تسعير الأزمة، وكلام رئيس فرنسا يدس السم في العسل، وألمانيا صامتة.. وهي الخاسر الأكبر من التوتر.. وأمريكا عينها على السيل الشمالي.
لا حديث عن الموازين، التصعيد هو الهدف وتوريط أوكرانيا هو المنتظر وهو المحتمل وتركها وحيدة أمر طبيعي وعادة غربية، لأن المواجهة المباشرة بين “ناتو” وروسيا، ليست في الحسبان، وهي من التكلفة التي تعجز عن تحملها القوى العظمى.
التصعيد الغربي يهدف إلى غايتين، الأولى: إبقاء التوتر في محيط روسيا وإشغالها في حديقتها الخلفية، والثانية: توريط أوكرانيا في صراع مستديم مع روسيا، وإذكاء الخلافات بين عصبي الاتحاد السوفييتي السابق، الخلافات التي تبعدهما أكثر عن تاريخ مشترك لا يرغب الغرب في تذكره.
المقايضة الدولية في الملفات ليست واردة الآن، فاستهداف روسيا هو الغاية -هذه فرصة أمريكية متاحة الآن وقد لا تتكرر- ولا ملف يساوي إشغال موسكو في حديقتها الخلفية سوى تدخل روسي في أمريكا اللاتينية، كما تفعل أمريكا، هذا ملف كبير بالنسبة لواشنطن، لأن له أهدافاً أمريكية أخرى التي يأتي في مقدمتها، إبقاء أوروبا تحت جناحها، ولا شيء يضمن لها ذلك غير الإبقاء على حالة التوتر هذه بين موسكو والعواصم الأوروبية.
ورغم ذلك يمكننا ملاحظة الهدوء الألماني، لأن برلين فهمت لعبة النار هذه، فلها قدرتها المحدودة على مراوغة الطلبات الأمريكية، لكن مصالحها ستبقى أولاً ومشروع السيل الشمالي يقترب كل يوم من الإنجاز النهائي..
لا يُعتقد أن القوى الغربية ترغب بالمواجهة المباشرة مع قوة عسكرية كبيرة على صعيدي الأسلحة التقليدية أو النووية، والمغامرة بالذهاب إلى النهاية، لكن عندما تبدأ الحرب لن تستطيع المراوغة الدبلوماسية لبعض الدول الأوروبية وقفها ساعة تشاء.
الرياح التي تهب في البحر الأسود ساخنة وعاتية في العمق، لكن لا يبدو أنها ستهدأ بلا انفجار ولو بشكل محدود، وبعدها.. ربما يجلس البعض على طاولة المفاوضات.