“إنسان مُفْرط في إنسانيته”
عبر أكثر من قرنين من الزمن ناضلت الجماهير الكادحة والمسحوقة في كافة بقاع الأرض في سبيل حقوقها ومكتسباتها، واستطاعت من خلال تضحياتها تحقيق إنجازات مهمة مثل عدالة الأجور، وحرية تشكيل النقابات، وحق المشاركة السياسية والاقتراع، كما استطاعت العديد من الشعوب انتزاع استقلالها وحقها في تقرير مصيرها وإنهاء ما عرف بالحقبة الاستعمارية.
كل هذا النضال كان موجها ضد الاستغلال الذي مثلته الرأسمالية منذ نشأتها وحتى اليوم. لكن الرأسمالية، وكعادتها دائماً، قامت بالسطو على نضالات الآخرين وتحويلها إلى إنجازات لها، وتحولت مصطلحات مثل العدالة والديمقراطية والحرية إلى علامات تجارية مسجلة باسم النظام الرأسمالي، وفي الكثير من الأحيان إلى سلاح تستخدمه الرأسمالية ضد الشعوب والدول التي لا تدور في فلكها.
لعل أكثر هذه المصطلحات استخداماً، واستفزازاً في آن، هو الربط بين الرأسمالية والإنسانية. الاستفزاز لا يكمن فقط في أن النظام الرأسمالي أباد الملايين، وكاد يفني شعوباً عن بكرة أبيها مثل سكان أميركا الأصليين، واستخدم أبشع أسلحة الدمار في حروبه الغاشمة، بل في كونه يخرج علينا بحلة جديدة هي الرأسمالية الإنسانية. هذا النظام أعاد إنتاج مفهوم الإنسانية ليتفق مع نمط الإنتاج الرأسمالي، ويتحول إلى أداة بيد الرأسمالية لممارسة المزيد من القهر والنهب والهيمنة على الشعوب.
يقول أحد زعماء الليبراليين: “العدو هو الشخص الذي لم تسمع قصته بعد”. ما يعني إمكانية تغيير موقفك من العدو لو سمعت قصته وفهمت دوافعه. فإذا سمعنا قصة الهولوكوست يمكن أن نتفهم احتلال فلسطين من العصابات الصهيونية، وننظر إليهم كضحايا وليس كمجرمين، ونقبل اقتسام الأرض معهم. نفس الأمر يمكن تطبيقه على أسامة بن لادن، وأبو محمد الجولاني وأبو مصعب الزرقاوي، أليس هذا ما تفعله القنوات الفضائية العالمية والعربية الداعمة لما يسمى الربيع العربي؟
لقد رأينا أسامة بن لادن على شاشة قناة الجزيرة يقدم روايته عن الحرب الإرهابية التي يخوضها، وعدنا لنرى أبو محمد الجولاني على نفس الشاشة، وكلاهما قدم رواية تستحث المشاعر الدينية عند المشاهدين، وتستثير عواطفهم “الصادقة” ليروا في تلك الروايات وجهة نظر يمكن تفهمها.
هذا ما تفعله هوليوود عندما تقدم لنا صورة الجندي الأميركي في فيلم مثل “القناص الأميركي” الذي يقتل العراقيين دفاعاً عن زملائه الذين يقتحمون البيوت ويدمرون الأحياء السكنية.
في كل الحالات تطغى الصورة على أفكار المشاهدين، فتغيب عن عقولهم فكرة أن ما يسمعوه ويشاهدوه ليس سوى كذبة متقنة ومصطنعة، وأن الحقيقة تكمن في الأفعال التي يرتكبها هؤلاء على الأرض، وأننا يجب أن ننظر إليهم كأعداء ومجرمين، بغض النظر عما نسمع أو نشاهد.
هذه الإستراتيجية التي تلجأ إليها الرأسمالية هي إستراتيجية “الأنسنة”، فمن الإنساني جداً أن نخطئ… بالنهاية لسنا سوى بشر نخطئ، لكن المهم أننا نبادر إلى إصلاح أخطائنا، سواء من خلال سيادة القانون الليبرالي، أو التوبة الدينية.
في هذا السياق يمكن أن نتفهم قيام الجنود الأميركيين بأبشع عمليات التعذيب في سجن أبو غريب، ما دام القانون سوف يحاسبهم وقد يسجنهم أو يسرحهم من الخدمة تسريحاً غير مشرف. ويمكن أن نتقبل توبة آكل الأكباد أو قاطع الرؤوس إذا أعلنها توبة نصوحاً.
هذه الصورة يمكن أن نراها عند جيش الاحتلال في فلسطين، عندما تركز الكاميرا على جندي صهيوني يساعد أهل المنزل في إخراج أثاثهم قبل أن يقوم جيش الاحتلال بتدمير منزلهم، وقد ينفض التراب عن دمية معفرة به ويعيدها إلى طفلة تبكي، عندها تقترب المذيعة منه وتسأله عن سبب قيامه بذلك يخرج محفظته ليريها صورة ابنته ويقول إن الطفلة ذكرته بابنته الصغيرة.
يتسمر العالم أمام هذا المشهد الإنساني، وينسى تماماً البيت الذي يتم نسفه، والطفلة التي حصلت على دميتها لكنها فقدت منزلها وتحولت إلى مشردة.
تنتهي “الأنسنة” دائماً بتفكيك الآخر (العدو) وتحويله إلى الآخر (الإنسان) فيخلع الإرهابي حزامه الناسف ويلبس بدلة أنيقة ويتحول إلى معارض معتدل، ويُستبدل اليميني المتطرف المعادي للهجرة بيساري ليبرالي يطرح برنامجاً معادياً للهجرة باعتدال، وتكتسب “حسنة الحريري”، التي قتلت الجندي السوري بشكل وحشي، تعاطفاً ممن يسوقون قضيتها على أنها طرد للاجئة بما يخالف القانون الدولي.
ضمن هذه المعادلة يصبح أوباما “إنساناً مُفْرطاً في إنسانيته” مقارنة بترامب المتطرف، وماكرون مقارنة بلوبان، وعبد الحكيم قطيفان الذي خرج في تظاهرة لشكر أميركا على قانون “سيزر”، وجورج صبرا الذي استنكر اعتبار “جبهة النصرة” تنظيماً إرهابياً، وكمال اللبواني الذي زار الكيان الصهيوني الغاصب في فلسطين، كل هؤلاء يعتبرون “إنسانيين” مقارنة بأبي عبد الله المحيسني.
ما نعرفه جميعاً، ومن دون شك، أن ما تدعيه الرأسمالية من إنسانية أو ديمقراطية أو عدالة ليس سوى كذبة يستطيع أي شخص عادي تقديم الأدلة على عدم صدقها.
ونعرف جميعاً أن الليبرالية الاقتصادية ليست سوى الغطاء الرأسمالي للفساد ونهب الشعوب. رغم ذلك نناضل في سبيل القيم العليا باستعمال وسائل الرأسمالية ولغتها وأدواتها، ونحن نعلم تماماً أنها لا تبدو فاسدة وكاذبة فحسب، بل إنها فاسدة وكاذبة فعلاً.
يقول أحد متزعمي ما يدعى “الثورة السورية”: صحيح أن “الثورة” تلقت دعماً بالمال والسلاح من دول أجنبية، وأن بعض قياداتها سرقوا أموال الدعم وخذلوا الشعب.. لكننا بشر وثوار حقيقيون”. لكن الحقيقة أنهم ليسوا سوى “عملاء وجبناء ولصوص”.
كاتب من الأردن