في «حبره العاجل».. عبد الوهاب محمد يوصي بـ« كل نافذة يدخلها عطر الجارة لا يدخلها اللصوص»!
(لماذا أنا أدخل النّار،
وأنتم من قطعَ رؤوس السنابل؛ – يقولُ الرغيف –).
مرت قرون طويلة ريثما وصل الشعرُ إلى (الوميض)، قرون طويلة مرّت عندما كان الشعرُ ملاحم، وربما لا يعلم إلا القليل، إنّ أهمّ النصوص وأقدمها، تلك التي روت لنا أساطير وحكايا؛ تمّ سردها شعراً، منها على سبيل المثال النص – الملحمة، الذي أتُفق عليه بما ما يُشبه الإجماع؛ على أنه النص الأقدم الذي جرى تدوينه المدوّن في العالم، وأقصد بذلك (ملحمة جلجامش)، ثمّ إلى ما دونه هوميروس في الإلياذة، وغيرها الكثير من الملاحم التي رويت شعراً لا نثراً، وذلك قبل أن ينتقل الشعرُ من الملحمية إلى الغنائية..
طويلةٌ هي مسيرة القصيدة، وهي في تصاعدها، وإصرارها حتى لا تصل إلى مرافئها الأخيرة، فهي – القصيدة – كلما استنفدت شكلاً جمالياً ما، سرعان ما تتحور، وتتطور لتخرج بقالبٍ مختلف، وصولاً إلى القصيدة التي تُقال بمنشور لا يتعدى بضعُ كلمات على إحدى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.
ومناسبة هذا الحديث عن (قُصارى القول) في الشعر؛ مجموعة (حبر عاجل) للشاعر عبد الوهاب محمد، الصادرة منذ مدة قريبة عن دار بعل في دمشق.
على غلاف المجموعة، لم يعطِ عبد الوهاب نوعاً يُصنف من خلاله نتاجه الإبداعي في هذه المجموعة، وإنما عنون بالـ(نصوص)، هذا العنوان المفتوح، والذي كثيراً ما يُستخدم في هذه الأيام، وذلك لأكثر من غاية وسبب، لعلّ أهمها تداخل الأنواع الإبداعية وتشابهها، وتقاطعها في الكثير من الملامح لدرجة الصعوبة في التميز بين تلك الأنواع الأدبية، والتي أمست اليوم تُصنف ضمن إطار الأدب الوجيز..
(لا تستقيم خُطاكم،
قبل الانحناء لي،
– يقولُ حذاء -)
وفي (حبر عاجل)، فإنه من الصعوبة بمكان، تصنيفُ نصوصها في جنسٍ إبداعي مُحدد، ومن هنا؛ فإنّ وسم محتوى المجموعة بـ(نصوص) جاء في محله.. وإذا ما أخذنا النصين الذين ابتدأنا بهما هذا المقال؛ فإنّ المُهتم لأمر التصنيف؛ يُمكن له تصنيفهما في أكثر من نوع أدبي، يُمكن تصنيفهما على أنهما ومضتان شعريتان، وذلك لاحتوائهما معظم ملامح الومضة الشعرية..
كما يُمكن تصنيفهما (قصة قصيرة جداً) بكل ما يعني هذا الشكل الإبداعي، والذي لايزالُ ينتشر أفقياً، بمعنى كثرة من يكتبونه، وعمودياً، بمعنى توافر الكثير من النصوص النوعية في هذا المجال منذ تسعينيات القرن العشرين، وإلى اليوم.. أي أن النصين الآنفي الذكر؛ تضمنا الحكائية، التي هي أهم مكونات القصة القصيرة جداً، وكذلك احتويا على (الحدث)، ثم كانت هذه التراكيب المُدهشة التي أعطت كامل ملامح البلاغة المُضادة، وهي مُضادة للبلاغة التقليدية من تشبيه وكناية واستعارة، هنا كانت بلاغة النص، أو تشكلت من: الإضمار، الذي جاء ليفتح واسعاً باب التأويل للمتلقي، وكذلك الإيحاء ومن ثم الرموز التي أشار إليها النصان، وجميعها أفضت لـ(الإخفاء) الذي وفره النصان من الشرح والحديث..
هنا في مثل نصوص كهذه؛ تتشكل نوعاً من (الشيفرة) بين الكاتب والقارئ، لكن ليس معنى ذلك أنه نصٌ مُشفر، يعني الإيغال صوب الغموض والذهنية، أبداً، بل ربما على العكس من ذلك تماماً، فالنص الوجيز، هو أبعد ما يكون عن الغموض والذهنية، غير أن مكامن الإبداع فيه تكون في التراكيب، والشاعر عبد الوهاب محمد، كان مُجيداً في اختيار (التراكيب) المُدهشة، وفي نصوص هذه المجموعة، وهو هنا – الشاعر – كان ماهراً في استخدام تقنية (الانزياح)، بمعنى سحب المفردات من سياقاتها المُعتادة، وتركيبها في سياقات جديدة، وهو الأمر الذي يُنعش مفردات اللغة اليوم، بدل التورط في اختيار المفردات الأحفورية والجزلة التي تحتاج للرجوع إلى القواميس الباردة لمعرفة معانيها، وذلك في استعراض لغوي لا جدوى منه.. هنا الشاعر اختار مفرداته من سياقات مُعتادة، ووضعها في سياق مختلف عن اعتيادتها الطويلة في مفهوم سابق، وهذه التقنية إبداع في حدّ ذاتها، وذلك لحساسية التركيب، ومن ثمّ قبوله، وقد أدّت غايتها المختلفة في السياق الجديد، أو التركيب الجديد..
(اكتشفوا أنّ في قلبي
حمولةً زائدة من الحبّ؛
فنصحوني
أن أجد امرأةً
تسمحُ لي بالطّيران
على خطوطها..)
غير أنه، عندما نقول إنّ الشاعر المُعاصر، يعتمد في أدواته على تقنيات (البلاغة المُضادة)، لا يعني ذلك أنه يترك جانباً تقنيات البلاغة التقليدية، وتخليه عنها نهائياً، وأظن أنه من وافر القول استخدامه البلاغة التقليدية بشكلٍ مختلف، وفي النص السابق، وإن كان التشبيه ناقصاً، بغياب المشبه به، فقد وصل الأخير، أو حضر في ذهن المُتلقي من دون أن يُفصح عنه، والذي هو هنا (الطائرة) في الإشارة إلى (خطوط المرأة).. كل ذلك هي من ضرورات النص الوامض، أو أدب الوجيز، على اختلاف أنواعه من قصة قصيرة جداً، وومضة شعرية، وحتى بما انتشر أخيراً على أنه (هايكو)، وغير ذلك من أشكال قصيدة النثر هذه الأيام.. لأن مثل هذه التقنيات شكلت اقتراحات جديدة لشاعر اليوم ليوفر الكثير من هدر الكلام حتى يصل (بيت القصيد)..
التقنيات المُشار إليها من كلام؛ منحت الكاتب لأن يقول (بيت قصيده) دفعةً واحدة، من دون أن يُضحّي بأي جمالية، من جماليات النص، حتى لو كان طويلاً، لأن مثل هذه التقنيات أوحت بشعرية عالية وسعت كثيراً من (ضيق العبارة) التي طالما اشتكى منها أبو النقد في الإرث النقدي العربي، وأقصد بذلك (النُفري)، هنا وبقدرة الشاعر على صناعة التراكيب المُدهشة التي التقطها من (قارعة الطريق)؛ استطاع أن يوسع ما اشتكى منه (النفري)، فقد أعطت هذه التراكيب في أنساقها الجديدة رحابة للعبارة، رحابة يسرح فيها خيّال الشاعر في مضمار خياله..
(لا تخافوا سواد العمر
يوماً ما؛
سأمنحكم بياضي
– يقولُ الكفن –)
ذلك ما اشتغل عليه عبد الوهاب محمد في (حبر عاجل)، ولنقف هنا قليلاً عند هذه العتبة – العنوان -، فقد حوّر الشاعر جملة إعلامية، لها وقعها الخاص في أذن المُتلقي، و لاسيما منذ عشر سنوات، وإلى اليوم، ليس في سورية وحسب، بل وفي مختلف مناطق العالم العربي، تلك العبارة التي تأتي ملونة بالأحمر، على وقع موسيقا سريعة، كل قناة إعلامية تفننت في تقديمها كسبق صحفي يحمل من الأخبار ما تهول له القلوب، وتشيبُ من وقعه رؤوس الأطفال، وأقصد بذلك (خبر عاجل)، الذي غالباً ما ينقله المراسل الحربي، من المناطق الساخنة، في ميادين القتال وجبهات المعارك، والذي غالباً ما يُعلن من خلاله عن فجيعة.. هذه العبارة الحمراء التي تأتي عاجلة كسهم، أو كقذيفة في شارعٍ آمن، أراد الشاعر أن يُخفف من وطأتها وشراستها، أراد من وجهة نظري أن يسخر من عبثية الموت، و لاسيما المجاني، والغامض الأهداف..
عبد الوهاب محمد؛ كل ما اشتغل عليه في هذه العبارة، ليصل إلى غايته (التهكمية)؛ إنه غيّر حرفاً واحداً في تلك العبارة التي تقشعرُّ لسمعها الأبدان، فما كان منه إلا أن قلب (الخاءَ) (حاءً)، وكان ذلك يكفيه ليصل غايته، ليس السخرية من الموت وحسب، بل وليقدم البديل، إذا ما اعتبرنا أنّ الشعرَ يُصنف على أنه (أدب الحياة)، وهو بعكس ثقافة الموت التي تنطوي عليها (الأخبار العاجلة)..
(تبّاً
لقانون الطوارئ؛
قبلتي العالقة فوق شفتيها،
ممنوعةً من التجوّل.)
وعلى سيرة (التهكم)؛ فالحقيقة الجمالية في نصوص عبد الوهاب محمد؛ إنه لعب على هذه الغواية طويلاً، وكانت من مميزات شغله في النص، أو ما عُرف بشعر البداهة، وهي ميزة قلما توفرت للشعراء، أي أن تقرأ نصوصهم وأنت تبتسم، وهنا يُذكرنا بثلاثة شعرٍاء سوريين كانت لهم المساحة اللغوية الرحبة، التي اشتغلوا من خلالها على (شعر البداهة) المفعم بالسخرية الشاعرية، والتي تجعلك تقرأ نصهم وأنت تبتسم، عبد الوهاب محمد هو من (الفرقة الناجية) من الشعر الحزين، هذا الحزن الذي وسم النص الشعري منذ أكثر من عقدين من السنين، حتى جاءت معظم نصوصه مناجاة طويلة ولطماً في كربلائية لا نهاية لدموعها، وهو هنا يقترب كثيراً من الشعراء الثلاثة الضاحكين: صقر عليشي، محمد عيسى، محمد عُضيمة..
(تقول العلوم الجنائية:
كلُّ نافذةٍ يدخلُ منها
عطرُ الجارة الجميلة؛
لا يدخلها اللصّوص.)