ما لا شك فيه أن علم المخاطبة يشكل ركناً أساسياً من أركان بناء الروابط إن كان بين الناس فيما بينهم، أو بين الأهل وأبنائهم، أو بين رئيس ومرؤوسيه، أو بين المسؤول والمواطن وغيرها.. وعلى اختلاف أشكال هذه الروابط وتنوعها؛ وفي ظل ما يشهده العالم اليوم من تطور على صعيد التواصل والتفاعل بين البشر وما يشمله ذلك من اختلاف اللغة عن المراحل الزمنية السابقة، فإن المسلّم به اليوم هو أن نجاحك في إقناع من تتحدث إليه بوجهة نظرك يعتمد قبل كل شيء على التعامل مع المتلقي على أنه لا يقل ذكاء عنك، إن لم يكن أكثر ذكاء حتى، وأي تعامل بغير ذلك فسينتهي بك الأمر متحدثاً إلى نفسك فقط.
وعلى الرغم من أن عمليات بناء الروابط المذكورة أعلاه يمكن أن تختلف صعوبتها من واحدة لأخرى، إلا أن العملية الأصعب قد تكون في بناء العلاقة الصحيحة ما بين المواطن والمسؤول، لأنها عملياً غير محكومة بأي عواطف، كما معظم الروابط الأخرى، بل تعتمد على تلبية احتياجات وتحقيق المسؤول لمتطلبات المواطنين، وهذا الأمر يزداد صعوبة عندما تكون الدولة، أي دولة، تمر في ظروف صعبة اقتصادية أو أمنية، فكيف إذا كانت في حالة حرب منذ أكثر من عشر سنوات.
هنا يكون الأمر أكثر تعقيداً، ويمكن أن يصل إلى حد القناعة بعدم الإمكانية على بناء مثل هذه العلاقة الصحيحة والمنتجة، لاسيما أنها ليست محصورة بالعلاقة المباشرة بين المخاطب والمتلقي، بل يتدخل فيها الكثير من العوامل المؤثرة، ووسائل التواصل الاجتماعي خير مثال، لكن كل ذلك لا يعفي من ضرورة المحاولة والاستمرار حتى النجاح في عزل ما يمكن من هذه العوامل، وهذا، على صعوبته، يمكن أن يحصل لكنه بحاجة أولاً إلى احترام المسؤول لعقل المواطن، وتقديم المعلومة له عوضاً عن اللف والدوران، والابتعاد عن اللغة الجامدة الخالية من الروح، واعتماد لغة بسيطة ولكن من دون استخفاف بذكاء المتلقي، وتتناغم مع اختلاف ثقافات المتلقين وتنوعهم، بما يضمن خلق تفاعل معهم يتيح إيصال المضمون لهم من دون إصابتهم بالنفور والملل.
قد يقول قائل بأن هذا كله لن يجعل المواطن قادراً على تأمين لقمة عيشه، وهذا صحيح إلى حد بعيد، إلا أن ذلك يمكن أن يخفف من حالة الغضب والنقمة الناتجة عن استغباء عقول المواطنين إن كان من خلال استخدام لغة خاطئة معهم، بحوار مباشر أو عبر وسائل الإعلام، أو تجاهل مشاكلهم وعدم تقديم الشروحات الكافية حولها وما يتم فعله لتجاوزها، حتى لو لم ينجح بعد.
وحتى عندما يتخذ أي مسؤول رفيع قراراً يصب في مصلحة الدولة من منطلق إستراتيجي ويمكن أن يكون له تأثيراته السلبية على المواطن على المستوى القريب والمتوسط، فإن طريقة تصدير هذا القرار هي الحامل الأساسي للتخفيف من ردود الفعل عليه، خاصة إذا تم شرح مسبباته في هذه المرحلة بشفافية وما يمكن أن ينتج عنه من انعكاسات إيجابية في المستقبل، فالعلاقات في النهاية تحكمها المصالح، بما في ذلك علاقة المسؤول بالمواطن.
وعندما يُقال المسؤول، فهذا لا ينحصر فقط بكبار المسؤولين في الحكومة، بل بجب أن يتضمن أيضاً أصغر مسؤول في الحي أو القرية أو البلدة، فحالة النقمة من الأداء الحكومي تبدأ من هناك، عندما يذهب المواطن إلى مختار الحي ويلقى معاملة سيئة من دون أن تتم تلبية حاجته، عندها حتى لو خرج أعظم علماء فن المخاطبة لإقناع هذا المواطن بأبسط الحقائق، فهو سيفشل نتيجة التأثير السلبي الذي يترسخ يومياً لدى المواطنين من أداء الموظفين والمسؤولين الذين يتواصلون معهم بشكل مباشر.
إن نصف الطريق إلى نجاح المسؤول في مهمته هو قدرته على خلق رأي عام جيد، أو مقبول على أقل تقدير، تجاه عمله بشكل خاص، والأداء الحكومي بشكل عام، وهذا يقترن باجتهاده بعمله أولاً وتمكنه من التأثير بشكل إيجابي بعقول المتلقين ثانياً، وهنا ليس المقصود بالنجاح التمكن من حل جميع المشاكل، فهذا يرتبط بشكل أكبر بظروف أخرى خلقتها الحرب و”العقوبات” وغيرها، بل المقصود هو النجاح في بناء علاقة جيدة بين المواطن والمسؤول يمكن أن تكون من عوامل حماية الدولة ككل في ظل الظروف القاسية والصعبة التي تتعرض لها، عوضاً عن أن تكون وبالاً عليها كما هو الحال اليوم.