المتواضع الأول
رحل صديقه.. فحزن عليه حزناً شديداً وعندما سُئل عنه قال في وصفه :
نظيف الملبس والسريرة ..بشوش، خفيف الوقع على الناس جميعاً، همه الأول أن يريح محدثه، أن يرفعه منذ أول لحظة من دنيا المصالح والشكوك والمخاوف ومقارنة الأسلحة المخبأة وراء الظهور والضحك على الذقون إلى عالم الأخوة والود والصفاء والجمال.
في مدرسة الحياة لا على مقاعد التحصيل نمت وزكت مداركه، فلم يكن يتكلم كالببغاء أو عليماً بالنظريات، جاهلاً بمآلها عند التطبيق، واستقى لغته حية من أفواه الناس في عز المعاناة، لا منتهى في بطون القواميس والمراجع، فكنت لا تجد إنساناً يماثله في تزايد عدد أصدقائه الحميمين، لا يوماً بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة فلو شعر إنسان ليصبح برهة عدواً له لضاع وسط هذا الزحام أو لانقضى بسبب سحره فارتد سوياً وانضم إلى صفوف الأصدقاء.
يقول الأديب نجيب محفوظ ..لعل هذا هو أصدق وصف عن الكاتب يحيى حقي والذي كتبه ليصف به إحدى الشخصيات وكأنما يستعيد المرء قول أديب العربية الكبير (الجاحظ) :
(إذا أردت أن تعرف العيوب جمة فتأمل عيّاباً فإنه يعيب بفضل ما فيه من العيب …)
لنقول على منوالها إذا أردت أن تعرف الفضائل كلها فتأمل من يعرف الفضل لأهله فإنه يذكره بسبب ما فيه من الفضائل، وكذلك كان يحيى حقي ..
فما أحوجنا في ظل تردي العلاقات وتشويهها إلى قدوة نستظل بظلها عندما نفكر بأصدقائنا ونكون مخلصين في حفظ مودتهم بغيابهم كما بحضورهم .