ذهبت دراسات رصينة إلى التشكيك بقدرة شكسبير على الانفراد بتأليف أعماله العظيمة المنسوبة إليه، مشيرة إلى وجود مؤلّف مجهول آخر، أو مؤلّفين آخرين شاركوا الشاعر الكبير في تأليف تلك الروائع التي لا تزال تشكّل ذخراً عظيماً للإنسانية، لا للثقافة الإنكليزية فقط، وبالتوازي مع ذلك، يذكر تاريخ الفنّ التشكيلي أنّ الفنّانين المعلمّين الكبار في أوروبا (عصر النهضة) كانوا يمتلكون محترفات كبيرة، يتعلّم ويتدرّب فيها تلامذة فنون كثيرون؛ وكان التلامذة ينجزون، على سبيل التمرين، ما يكلّفهم به الأساتذة الذين كان بعضهم يكتفي بإجراء تصويبات طفيفة، أو يكتفي بمجرّد القبول، ولكن العمل الذي أنجزه التلامذة كان يحمل توقيع الفنّان المعلّم، لا تواقيع التلامذة، فكان المحترف بمنزلة المصنع الذي يعمل فيه أشخاص كثيرون، ولكنّ المنتج يحمل سمة واحدة هي سمة المصنع.
وفي تراثنا الثقافي العربي، كثر الحديث عن ظاهرة النحل في الشعر عموماً، والشعر الجاهلي وشعر صدر الإسلام على درجة أعلى من التخصيص، بمعنى أنّ قصائد طويلة وغير طويلة عديدة منسوبة إلى شعراء معروفين لم تكن لهم، أو لم تكن أبياتها كلّها لهم، لأسباب عديدة (مبسوطة) مدرسيّاً؛ كعمل الرواة الذين اشتهر منهم في عصر التدوين حمّاد الراوية الذي اعترف بأنّه نظم ثلاثة أبيات في مطلع قصيدة زهير بن أبي سلمى الرائية: (دع ذا وعُدّ القول في هرمٍ/خير البداة وسيّد الحضرِ) وخلف الأحمر الذي اتّهمه اللاحقون بأنّه هو الذي نظم القصيدة المعروفة بـ (لامية العرب) ثمّ نسبها للشنفرى: (أقيموا بني أمّي صدور مطيّكم..).
والأمر يتعدى ظاهرة النحل إلى الاشتراك الفعلي بالنظم، على غرار ما كان يفعله الذوّاقة والمتلقّون، والمغنّون، في مرحلة صدر الإسلام، من تعاور القصيدة بالنقد والتعديل، والتصويب؛ إذ شهد ذلك العصر حركة ثقافية متنامية تجري في المجالس الثقافية المعقودة في بعض البيوت الراقية، كمجلس السيّدة سكينة بنت الحسين، وغيره.. و خلال تلك المجالس، كان يجري ما يجري من اقتراحات وتصويبات تكفّلت بجعل الشعر العربي القديم بمعظمه يتّخذ الشكل الذي هو عليه اليوم على غرار ما جرى لإحدى قصائد عمر بن أبي ربيعة المغناة من إضافات وتعديلات حذفت منها كاف الخطاب وأضافت إليها أبياتاً لم تكن ضمن القصيدة الأساس (لقد أرسلت جاريتي/ وقلت لها خذي حذرك)، وهذا جميعه يعني أنّ الإبداع حمولة جمعية تجعله نتاج مرحلة، ونتاج جملة من الظروف الاجتماعية والثقافية المتضافرة، مهما بدت السمة الفردية طاغية عليه، ومتجذّرة فيه.