يذهب الظنّ، أوّل وهلة، إلى أنّ العرب هم أكثر الأمم استغراقاً في التسويغ بشتى أشكاله وميادينه، وقد درسنا في الحلقة الجامعية الأولى أشتاتاً من بلاغة العرب الممعنة في التبرير والتسويغ إلى حدود متطرّفة مكّنت أولئك (البلغاء) من تحويل هامشيّتهم التاريخية إلى أفعال حاسمة في رسم خريطة العالم المعاصر، يمضي أحد نصوص القراءة المدرسية ، في مرحلة ابتدائية انصرمت منذ عقود إلى أنّ وفود أممٍ كثيرة تمثّل شعوب الشرق والغرب في حينها، اجتمعت في بلاط كسرى الذي استضاف رؤساء الوفود بمن فيهم الملك النعمان ممثّلاً للعرب، ومضى كلّ منهم إلى المفاخرة بما يشتهر به قومه من صناعات وأفانين وتربية خيول وإنجاز انتصارات، ولم يبقَ سوى النعمان الذي نظر إليه الجميع بعين الرثاء بوصف بلاده مجرّد صحارى عاجزة عن إنتاج شيء، لكنّه – بحسب النصّ المدرسي – تسلّم كلمة الختام وأطلق خطبة بليغة في أفضال العرب على مختلف الأقوام، الأفضال المتوّجة بالقدرة المميّزة على نظم الشعر وإتقان الفصاحة، بحيث أقرّ في ذهن الحاضرين أنّ العرب كانوا فعلاً أفضل الجميع، بدليل ما ساقه النعمان بصورة بليغة مبهرة.
لا أناقش في هذا السياق مصداقية ذلك النصّ المدرسي، ولا صحّة الواقعة، ولا أستهين إطلاقاً بأهميّة الكلام وإتقان إدراجه ضمن مدارجه المناسبة، فاللغة هي الفكر بإطلاق الدلالة والعلاقة بينهما علاقة تماهٍ لا علاقة استيعاء، ولكنّ الاتّضاع العربي الرسمي الراهن وإلباسه أثوابه المبهرجة المصنّعة في الغرب والكيان الصهيوني لا يثير في المتلقّي العربي إلا اشمئزازاً من الإسفاف في مراكمة الهزائم والدونيّة الحضاريّة الشاملة ترضي أمريكا ومن ترضى عنه أمريكا.
وإذا انتقلنا بالمشهد الآنف إلى امتداداته العالمية نجد ألاّ أحد «أحسن من أحد» في هذا السياق، فالغزاة الأوروبيون الذين استباحوا العالم بشطريه القديم والجديد ارتكبوا أفظع الجرائم التي يندى لها جبين البشرية إلى أبد الآبدين؛ ولا يزالون يمارسون هذه الارتكابات الفظيعة التي تُعدّ فيها الإبادة الجماعية مجرّد إجراء سياسي مناسب سرعان ما يتحوّل لديهم، ولدى أذيالهم العربية -على وجه التخصيص- إلى أفعال أخلاقية حميدة، والويل لكلّ من يرى غير ذلك.