لسببٍ وجيه، كلُّ كتاب متعدّدِ الحكايات في ثقافات الشّعوب، يذكِّرُ بـ«ألف ليلة وليلة» العربيّة، حتى لو روى مئة حكاية على طريقة «ديكاميرون» الكاتب الإيطاليّ «جيوفاني بوكاشيو» وترجمةُ ديكا باليونانية: يوم والعنوان: عشرة أيّام! وهي زمن يضاهي برهةَ من اللّيالي العربيّة، لكنّه لا يقلُّ سحراً عن أحداثها!
عامَ 1348 اجتاح الطاعونُ إيطاليا وانقضّ على حاضرتها الجميلة «فلورنسا» أو مدينة الورود، ورأت عينا الشاعر كيف بدأ بحصد الأرواح بلا هوادة، وهو يتجلى بصورتين: طاعون رئويّ مصحوبٍ بحمّى عاليّة، ويؤدّي إلى الموت خلال ثلاثة أيّامٍ من بدء الإصابة، ودمّليٍّ مصحوبٍ بحمّى وخرّاجات وجمَرات، تؤدّي إلى الموت خلال خمسة أيّام، واستطاع في هجماته المتتالية القضاء على نصف السكّان، ولهَوْلِه، كانت الجثثُ تذهب إلى قبورها من دون مشيّعين ولا صلوات ولا أجراس ولا دموع، لأن الأحياء كانوا يترقّبون الموت في كلّ لحظة، عندها نزل الشّاعر من برجه العالي ليكتب نثره الجميل الخالد، من أجل عينيّ «فلورنسا» وجعل روايته على لسان ثلاثة شبّان، وسبع صبايا، يغادرون المدينة المنكوبة إلى مزرعة فيها قصر، يقيمون فيه أسبوعين، ويختارون في كلّ ليلة ملكاً، أو ملكة، يروي وتروي الحكايات، مع يوم عطلة أسبوعية ينصرفون فيها إلى التنزُّه في الطّبيعة، وحين انتهت ليالي «الحَجْر» كانت الحكايات قد عدّت المئة، عشْرُ حكاياتٍ في كلّ ليلة، هي قطوفٌ من أغنيات شعبيّة وألحانٍ ريفيّة، وانتقادات صريحة للتّوتّرات التي اجتاحت المجتمع بظهور طبقة الأثرياء الجُدُد، والتّجّار الجشعين، وتضاؤل نفوذ الأُسَر النّبيلة، التي كانت وراء ازدهار المدينة في تشجيع الفنون ورعاية المبدعين، وكذلك جشع رجال الدّين وتعيُّشِهم من موت الفقراء والبسطاء!
لم يُعطِ الكاتب قلبه وقلمه للمدينة المنكوبة التي أحبّ، فحسب، بل أعاد النّسغ والرّوح للثّقافة اليونانيّة التي أُعجب بها، وشجّع على دراستها بعد زوال الطّاعون، ومنح لغتَه الإيطاليّة زخماً قويّاً أخرجها من مواتها على أيدي الكتّاب التقليديّين، وما لبث أن أشهر في ذاكرتي جواهر هذا الكتاب بعد سبعة قرونٍ من الطَّاعون الرّئويّ الذي عاصره وعالجه على طريقته، بينما نسمع اليوم الأخبار المفجعة عن بلده الجميل، الذي ضربه الوباء أكثر مما فعل في كلّ بلاد العالم، وكأنّ الأوبئة تواصل تناسُلَها عبر الزّمن والتّاريخ، لكنّ ما اختلف حقّاً هو النّظام الرّأسمالي الذي يتوحّش على أطرافه من الدُّول، أكثر مما يفعل الطّاعون، والتّجّار الذين هجاهم بلا هوادة!