الأشجار التي احترقت، الأشجار التي تحترق لتخترق قدرها بسحر النار وهي تكشف عن عمق الظلمة التي كانت تحيط بها في الليالي العجاف، الأشجار التي كانت تنتظر الخريف ليتدلى الفجر من أملها الدائم بالخضرة، الأشجار التي مازالت في طور طفولتها، الأشجار التي تختبئ خلف حفيفها وكأنها في رحلة أبدية مع الخوف، الأشجار الباكية في أحضان الحطابين وهم يقصون لها التفاصيل المملة عن شغف المنشار بابتلاع ما تبقى من صمغها الجاف كلما حدا بها العطش لتكون أغنية اليتيم لليتيم ، الأشجار !!.. الأشجار جميعها، جميعها امتزجت بالنداء الأخير الذي نطلقه بوجه إزميل القهر الذي يلاحق الانسان السوري أينما حل به الترحال!
لم يكن قدراً امتزاج حلمنا بالجمر، وهو ليس مرضاً أصابنا لتكتمل تفاصيل الجريمة، ولن يكون هودجاً لحداء أرملة القتيل، هو إزميل من كل هذا وذاك، إزميل صبغه وشاة العالم ودجالوه بقدرة التقزم على امتلاك زمام العصر، فراقنا الدم على أعتاب الحقيقة لنكون دموعاً تسيل فوق رمال الصحراء
ترى ماذا أودعت الأشجار من وصايا بجنح الطير الذي نجى من المجزرة؟ هو سؤال الغريب للغريب، هو سؤال الطفولة الدائم للجوع، هو سؤال الأب المسن للبحار عندما تخلو أشرعة السفن من الريح، وهو جواب النار عندما تتحول إلى دخان بعيداً عن الانتماء
سورية تحترق منذ أن أصر طغاة الأرض على أن يكون التطهر ممهوراً بأبخرة الأساطيل، والفاقة ، والاتجار بالإنسان، سورية تحترق، هو ليس اختبار الجد للأحفاد، ولن يكون مرثية لعصر آفل نحو الجحود، هو نحن والأشجار، وما حملته لنا جبالنا من أغانٍ في أمسيات قطاف الزيتون
يقول الطير: لم أكن ممن يكسو جناحيه بمتعة الهروب، كنت مطالباً أن أكون مبشراً، ونذيراً في عصر قص أجنحة التغريد، لتكون ليالي السمر ساحة لنسج ملوحة الدموع على شكل أقراص مهدئة، لتكون فرضيات تعفينا من مسؤولياتنا عندما يبدأ المستقبل بتدوين تاريخه على خدود الجبال
الأشجار تحترق، الأشجار احترقت، يضيف الطير الذي كلف بإيصال الأمانة: لكن الجبال عصية على الاحتراق، تقول الجبال لست معنية بتأويل ألوان اللهب، ولا بدموع النار عندما تتحول إلى رماد.. تقول سورية: أنا القادم الذي يُظن على أنه المستحيل.