السوناتا الجنائزيّة لـ«شوبان» عملٌ موسيقيّ سجّل في التاريخ

تشرين- إدريس مراد:
سوناتا البيانو ( رقم 2، مصنف 35)، هي سوناتا بيانو مكونة من أربع حركات للموسيقي البولندي فريديريك شوبان.. أكمل شوبان هذا العمل أثناء إقامته في قصر جورج ساند في بلدة نوهانت، جنوب باريس، عام 1838، وقدمه عام 1840.. كتب شوبان في البداية الحركة الثالثة منها وهي المارش الجنائزي، ومن ثم أتم هيكلية السوناتا بحركاته الأخرى في نحو عامين، وعدّ العمل واحدة من أعظم السوناتات في عالم الموسيقا، إذ احتل مكانة لائقة بين أعمال شوبان للبيانو.
تعريف السوناتا
السوناتا هي قطعة تكتب لأي آلة موسيقية، كما تعني قالباً موسيقياً كلاسيكياً لتميزها عن المغناة، وقد جاءت كلمة سوناتا لتدل على فعل العزف في اللغة الإيطالية، وأخذت تدريجياً، هيكلاً صوتياً ذا معالم خاصة مميزة في التأليف الموسيقي.. تتألف السوناتا التقليدية من ثلاث حركات أساسية متسلسلة، سريعة، بطيئة أو معتدلة السرعة ومن ثم سريعة، وأحياناً من أربع حركات، وظهر هذا النوع من الموسيقا في أوائل القرن السابع عشر في إيطاليا، وتكتب للآلة واحدة وأيضاً لآلتين وثلاث آلات…
المارش الجنائزي
وفي العودة إلى السياق الأول، أطلق على سوناتا فريدريك شوبان للبيانو من مقام (سي بيمول مينور) الذي نحن بصدده (السوناتا الجنائزية) بسبب المارش الجنائزي المشهور الذي يحتل بين حركات هذا العمل مكان الحركة البطيئة.. لم يسم شوبان عمله هذا، بل جاء استناداً لعدة آراء أطلقها عدد من الموسيقيين وعازفي البيانو الكبار.
يمكن وصف هذه السوناتا كما وصفها عازف البيانو روبينشتاين بأنها قصيدة شعرية مأسوية تتمتع بحركية خاصة مملوءة بالديناميكية، وتشع بلهجة مأسوية، ومجموعها يوحي باستمرار واقعي، وهي عمل ثوري وكلاسيكي في الوقت نفسه، هي كلاسيكية من حيث الصيغة عدا النهاية، وتستعمل الإطار التقليدي، وثورية بمحادثتها الهارمونية والكتابة البيانوتية التي توحي لعصرها بالثمرات التي تدل على الجرأة النادرة .
بين البطء والسرعة
الحركة الأولى بطيئة، متحركة ومنفصلة، تسير بموجب الشكل الكلاسيكي لحركة الأليجيرو للسوناتا، تبدأ بأربع ميزورات على نحوٍ بطيء، فنجد قفزة الأوكتاف الأساسية تفرض الطابع النهائي لكامل السوناتا، والحركة الثانية هي سكيرزو، ويمكن القول إن شوبان اعتاد كتابة هذا النوع من المؤلفات حيث ثلاث فقرات متتالية (سكيرزو، تريو، سكيرزو)، ولم يحاول تغيير هذه الطريقة التي اتبعها سابقاً، وهي مرحلة إيقاعية على نحو مثير، متوحشة ومعتمة، إنها مرحلة (تريو) مبنية على فكرة لحنية جميلة، رومانتيكية، متماسكة بمرافقة هارمونية جميلة ومتأرجحة.
أما الحركة الثالثة من السوناتا، فهي المارش الجنائزي.. هذه المقطوعة التي ظلت في حد ذاتها واحدة من أكثر مقطوعات شوبان أهمية، وتحمل تراكيب لحنية شعبية وتلميحات من موسيقا باخ وبيتهوفن التي تضمنت إحدى سوناتات، وهي سوناتا البيانو (رقم 12 مارش) جنائزي أيضاً.
عزفت سوناتا الجنائزي لشوبان في الكثير من الجنازات في جميع أنحاء العالم بما في ذلك جنازة شوبان نفسه، وأصبحت تجسداً أنموذجاً للحزن والموت..
يقول الموسيقي المعروف شومان: «السوناتا تنتهي مع صرخات سفينكس، إنها ليست من الموسيقا، ولكنها عظيمة أكيد وغير رحيمة، تنفث في وجوهنا خمسة وسبعين مقطعاً لم يرّ فيها شوبان نفسه سوى ثرثرة يدين، ولكن أي ثرثرة هذه في هذا السريان المبدع..».
أصالة شوبان
عموماً إن الجزء الأكبر من أصالة شوبان يرجع إلى أنه أول موسيقي اتخذ من البيانو وسيلته الوحيدة للتعبير عن نفسه، ويكاد من المستحيل أن نتصور البيانو من دون أن يخطر في بالنا موسيقا شوبان، إذ يندر أن يستمع إلى برنامج للبيانو لا يتضمن بعضاً من مقطوعاته.. وشوبان من أكثر الموسيقيين أصالة، وأعماله تكاد تكون كلها من المستوى الرفيع، حتى لو اتفقنا بأنه تأثر بمؤلفي الأوبرا الإيطاليين، فمن المؤكد أن هارمونياته الرائعة وتحكمه الدقيق بالمقطوعات القصيرة من صنعه وحده، لأن أسلوبه يتضمن جديداً بالنسبة إلى من سبقه في القرن التاسع عشر، وقد تبدو موسيقاه أحياناً مفرطة في انفعالاتها، ولكنها بديعة التنسيق تجد طريقها بسهولة ويسر إلى الآذان، ومن أهم المصادر التي استمد منها شوبان أسلوبه في طريقة الغناء التجميلي في الأوبرات الإيطالية كما قلنا والموسيقا الشعبية البولندية وخاصة الراقصة منها، ومع ذلك كان يضيف إلى هذه المصادر عناصر شخصية قوية تتسم بالعمق والتعقيد، وأساسها التوافق الصوتي.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار