غزة.. ستنتصر

تشرين- إدريس هاني:
يسعى الاحتلال اليوم، ليس فقط لإعادة السيطرة على الأرض، بل لإعادة صياغة منظومة القيم الكونية والنظام العالمي الجديد على طريقته. قوام هذا النظام العالمي الجديد هو عودة التوحّش وتقويض الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فاستهداف مستشفى المعمداني الذي شيدته الكنيسة الإنجيلية، وقصف كنيسة الروم الأرثوذكس في غزة، يعني أنّ الاحتلال الـ.صـ.هيونـ.ـي فتح حرباً على المسيحية في الشرق، ما يضع الغرب المتواطئ مع الاحتلال أمام مفارقة غريبة، وهي أنّ مسيحية الغرب نفسها في خطر، فالغرب أكثر وفاء للـ.صـ.هيونـ.ـية وللإسخريوطي منه للمسيح وليد بيت لحم.
فالقيم التي يسعى الاحتلال لتكريسها في ظلّ الرعاية الإمبريالية، هي تعزيز صورة احتلال خارج أي سلطة دولية أو قانون دولي، وبأنّه يسعى لاستغلال الظرفية المعقدة، لتنفيذ خططه القديمة.
العالم الغربي – باستثناء من مازال يحتفظ بوفاء لقيم الإنسان والحرية- كشف عن أنّه ينطوي على رؤية تصنيفية، وعن أنّه منح الاحتلال الحق المطلق في إقامة محرقة للفلسطينيين. سقطت كل الشعارات التي يمضغها قادة الإمبريالية وأبواقهم القريبة أو البعيدة، ممن انضموا لجبهة الاحتلال، متبنين خطابه، ومبررين لكل جرائمه.
التحليل النفسي، وليس فقط المنطقي، لخطاب المثقف المزيف الذي يستهتر بلغة المفاهيم الإنسانية وخطاب العقلانية الزائفة، وبالإنسان الفلسطيني، يكشف عن تخبّط وخلط أوراق المفاهيم، إذ عندما يتعلق الأمر بالاحتلال، يتحدث المثقف الزائف عن مشاعر الأنسنة، وحين يتعلق بالفلسطينيين يرفض الخطاب نفسه ويستعمل العقلانية، وكأنّ العقلانية هي دعوة رسمية للاستسلام والعبودية وتجاهل محنة المعذبين في الأرض، هل أدرك هؤلاء أنّ العاطفة والمشاعر هي عنصر أساسي في خطاب السلام نفسه، كما في خطاب الحرب نفسها، وأنّ العقل دائماً كان دعوة للعدالة والإنصاف؟
قبل أيّام كتب الطاهر بن جلون أسوأ مقالة في لوبوان الفرنسية، جاء كلامه مطابقاً للاحتلال نفسه، ويخالف إرادة الشارع الفرنسي الذي يشهد مظاهرات تضامنية مع الشعب الفلسطيني في غزة، كما أنّه يخالف حتى موقف الأمم المتحدة الخجول، الذي يطالب بفتح الطريق أمام المساعدات الإنسانية، ويعتبر أنّ ما يحصل في غزة يخرق قواعد الحرب. الفرق بين خونة الأمس وخونة اليوم، هو أنّ خونة الأمس كانوا يتسترون على خيانتهم خلافاً لما يقومون به اليوم، كما أنّ خونة الأمس يحاولون تفادي بطش الاستعمار المباشر والاستفادة من مكاسبه، لكنهم اليوم يريدون الاستفادة فقط مع أنّ بطشه لا يقع عليهم. هكذا أصبحت الخيانة لها نخبة، وأدوات للعمل، وثوابت من المحللين الاستراتيجيين المزيفين، الذين يبررون جرائم الاحتلال برصيد من المفاهيم المقرصنة، والأفكار التضليلية.
كشفت عملية “طوفان الأقصى” عن أكذوبة المثقف المختبئ خلف أصابعه، حين بات يترنّح داخل مغالطاته، كافراً بالتّاريخ، والإنسان. لم يأبه لكلّ هذه الدماء، وببرودة وخسّة، يتجاهل كل مشاعر البشر ويتمسك بمفاهيم مُلتبسة. هذا الحيوان المُغالط الذي يُظهر شكلاً من التنوير الأصفر، بأنياب تقطر دماً، وضمير ممتلئ قيحاً، وكأنّه ليس من كوكبنا، هو اليوم ساقط مهما اختبأ خلف مانشيطات مستهلكة، غير آبه بالاجتماع، مُؤهّل لأن يمسح آثار مصاصي الدماء.
أصبح أطفال غزة هدفاً للصواريخ والقذائف، لقد حولهم الاحتلال إلى وجبة، وهو يسعى لتطهير غزة من الديمغرافيا الفلسطينية، وإزاء هذه الحرب المقنّعة، يمنح النظام الدولي إجازة لنفسه، وما تبقّى من الرِّق الأممي، منهمك في التباكي على مشاعر المحتل لا مشاعر الفلسطينيين.
حتى الآن، لا ندري، هل توجد استقامة سياسية ومبادئ تستحق الاحترام، بعد أيام من التدمير والإبادة لشعب أعزل؟
سيجد الاحتلال نفسه فاقداً لخيار آخر غير استهداف المدنيين، أمّا مغامرة الاكتساح البرّي، فهي لن تكون نزهة لأسباب عديدة، منها على سبيل الاختصار:
– إنّ المقاومة في حالة انتظار وجهوزية تامّة للاحتكاك بالجيش الـ.صـ.هيونـ.ـي، ولقد سبق واحتكت به وأدركت مستوى تكوينه القتالي، فالمقاوم يُعادل أكثر من عشرة من عناصر الجيش، في التكوين والإرادة والإيمان بقضيته
– إنّ المقاومة والشعب الفلسطيني من ورائها وجماهير العرب والمسلمين وأحرار العالم، ستجد نفسها أمام فرصة للثأر لشهدائها.
– إنّ نشوب حرب برّية سيؤدي إلى اتساع مجال المعركة، وهنا سيكون الاحتلال قد اختار أسوأ الاحتمالات، لأنّ المقاومة تحمل مفاجآت كثيرة من الخطط البديلة في إطار التنسيق الميداني ووحدة الساحات.
اليوم يبدو أنّ الغرب حائر بين أن يدعم أوكرانيا وفي الوقت نفسه أن يدعم الاحتلال، فهناك جبهتان في إقليمين حيويين، أحدهما في قلب الشرق الأوسط والثاني في تخوم أوراسيا. وهذه الحرب من الناحية الجيوستراتيجية ستكون معقّدة.

فالصين التي تبدو خارج معادلة المواجهة المباشرة، حاضرة من حيث سلطة الفيتو الأممي، وحاضرة من حيث التقنية السيبرانية التي تستعمل في مجال التحكم بالصواريخ والأقمار الاصطناعية، فقوى محور المقاومة تمتلك اليوم صناعة الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة التي هي عناصر حاسمة في الجيل الجديد للحروب، كما أنّ المقاومة نفسها تعيش على مكتسبات جيلها السابع من المهارات والتكوينات والقدرة على المناورة وخوض حرب كلاسيكية.
لا يستطيع الاحتلال أن ينتقم لكرامته لسبب بسيط، وهو أوّلا، لا كرامة لمحتل، كما لا يمكن العودة إلى زمن ما قبل “طوفان الأقصى”، فالاحتلال طوّر من قدراته وكذلك المقاومة، بل لقد قاده غباؤه لكي يحرق كلّ ما كان حاوله عبر الصفقات والاتفاقيات التي لم يلتزم بواحدة منها، السؤال المطروح اليوم: هل لأوسلو ما تُقدّمه للفلسطينيين بعد مجازر غزة؟ هل سيكون خطاب السلطة الفلسطينية مُقنعاً بعد “طوفان الأقصى”؟
الحديث عن تهجير أهالي غزة لسيناء، واحدة من الخرافات التي أنتجتها تحشيشة صدمة “طوفان الأقصى”، كان ذلك حلم الاحتلال منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، هل يستطيع أن ينفذه اليوم وهو عاجز عن حسم المعركة في غزة؟ لم نسأل إن كان سكان غزة مستعدين للتهجير سواء إلى سيناء أو صحراء النقب، لكن ما هو مؤكد أن لا أحد يملك تهجير شعب في حالة مقاومة..
لقد باتت غزة وجبة دائماً بالنسبة للاحتلال الذي يعبّر عن يأس وانسداد كبيرين، ولكن هذه الوجبة ستكون عسيرة الهضم، بل إنّ غزّة تحوّلت إلى شوكة في حلق الاحتلال، ومن خلالها يقرأ كل فلسطيني، في الداخل أو في الخارج ذلك المصير الذي حملته أحلامهم الكبيرة، على كل فلسطيني في الشتات أن يتحسّس مفاتيح العودة، ولسان حالهم:
راجعين يا هوى
راجعين يا هوى راجعين يا زهرة المساكين
راجعين يا هوى على دار الهوى على نار الهوى.. راجعين
قريبا ستجري دبكة الانتصار في شوارع غزّة، لأنّنا من خلال انتصار غزّة سننتصر وستنتصر قيم التحرر الوطني والسلام العالمي الحقيقي، سلام الأحرار لا سلام العبيد.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار